،،،،
《الأنثروبولوجيا حول العالم 》
أولا، يجب الإشارة إلى أن اختلاف المدارس الأنثروبولوجية حول التخصصات والفروع ومجالات ومناهج البحث، هو أمر متفهم في ضوء اختلاف التاريخ والثقافة والتيار الفلسفي المهيمن، بل اختلاف النظرة إلى هذا العلم ووظيفته والغرض منه أيضا، لذا لم يقتصر الاختلاف على دول العالم الأول، فتكرر عند اشتغال دول ما بعد الكولونيالية بالبحث الأنثروبولوجي، مثلما جرى في أفريقيا.
كما أن للحركة النسوية مقاربتها الخاصة، وهي مقاربة مهمة ومؤثرة، سعت فيها إلى تحرير المجال وتنقيته من الهيمنة والتحيز الذكوري. ومن الأمثلة على الخصوصية القومية جريان العرف في بعض بلاد أوروبا –أبرزها فرنسا- على إسناد مهمة دراسة الإنسان ما دام «آخر»، سواء زمانيا أو مكانيا، إلى علم الأنثروبولوجيا، بينما يتكفل علم الاجتماع بدراسة المجتمعات الغربية الحديثة. وبالفعل، يلاحظ أن الشعوب المحتلة قد نالت النصيب الأكبر من اهتمام الأنثروبولوجيين، بينما نال الغرب جل اهتمام علماء الاجتماع، وإن كان الأمر قد تغير.
الإنجليزية لغة الجزء الأكبر من أدبيات الأنثروبولوجيا، ومرجع ذلك إلى سبق إنجلترا وأمريكا النسبي إلى تأسيس هذا العلم وتطويره، إضافة إلى كونها اللغة الرسمية للعولمة. إلا أن هناك اختلافات بين هذين البلدين أيضا. مثل الاختلاف التاريخي حول تفاسير الأنماط الاجتماعية، فبينما رأى الأمريكيون أن التفسير يعبر عن بنية عقلية مشتركة لا يجوز تعميمها، رأى الإنجليز أنه قانون يشبه قوانين العلوم الطبيعية.
كما أن علم الآثار في إنجلترا تخصص أكاديمي مستقل عن الأنثروبولوجيا تماما، على عكس الوضع في أمريكا (كما سنرى). لهذه الأسباب وغيرها، رغم الأهمية والمكانة الكبيرة للأنثروبولوجيا الأوروبية، خاصة الإنجليزية والفرنسية، سنعرض هنا للتخصصات الأنثروبولوجية وفق المقاربة الأمريكية، التي تجعلها تخصصات أربعة: الأنثروبولوجيا الفيزيائية (البيولوجية)، والأنثروبولوجيا الثقافية (الاجتماعية)، والأنثروبولوجيا اللغوية، وعلم الآثار.
●تخصصات الأنثروبولوجيا الأمريكية
يرجع الفضل الأكبر في تأسيس الأنثروبولوجيا الأمريكية الحديثة إلى الأنثروبولوجي الألماني-الأمريكي فرانز بواس، وهو من طور هذه المقاربة الرباعية، أثناء عمله بجامعة كولومبيا، حيث عين أول أستاذ للأنثروبولوجيا في عام 1899. كان النموذج المهيمن آنذاك هو التطور الثقافي المتأثر بنظرية داروين، المذكور آنفا، وكان دحض هذه النظرية أحد إنجازاته المهمة الأخرى. كما شجع على علاج النقص الشديد في المعلومات الإثنوجرافية (الوصفية) المنضبطة.
1. الأنثروبولوجيا الفيزيائية
تدرس تطور الإنسان على مر الزمن، والآثار البيئية والثقافة المختلفة على التطور الإنساني. وتعالج ثلاث مجموعات رئيسية من المشكلات: تطور الرئيسيات الإنسانية وغير الإنسانية، والتنوع الإنساني وأهميته، والأسس البيولوجية للسلوك الإنساني. من أجل ذلك يدرس الأنثروبولوجيون الفيزيائيون حفريات المجموعات السابقة من أشباه الإنسان (Hominini) والرئيسيات غير الإنسانية.
2. الأنثروبولوجيا الثقافية
هذه أكبر التخصصات الأربعة، فالثقافة في الأنثروبولوجيا الأمريكية أشمل بكثير من المجتمع (يحمل التخصص في بريطانيا اسم الأنثروبولوجيا الاجتماعية)، إذ تشمل كل ما هو مكتسب في حياة الإنسان. ومن بين ذلك الدين، والأسطورة، والتقاليد، والعادات، والفنون، والأدوات، والهياكل الاجتماعية، والأسرة. ولقد كان للوجود المسبق لمجتمعات السكان الأصليين في أمريكا دور عظيم في إثراء وتطوير هذا التخصص بصورة ملحوظة.
3. الأنثروبولوجيا اللغوية
تدرس اللغات في سياقها الاجتماعي والثقافي عبر الزمان والمكان، سواء اللفظية وغير اللفظية، ويشمل ذلك دراسة وظائفها واستخداماتها الاجتماعية، والعلاقة بين اللغة والعقل والثقافة والمجتمع، وتأثير اللغات على تصورنا للعالم، وانتقالها بين الأجيال. ولقد استطاع الأنثروبولوجيون اللغويون تطوير مجموعة من الأدوات النظرية والمنهجية واسعة النطاق، تتناسب مع شمولية نطاق البحث. فإلى جانب دراسة مختلف النظريات الموضوعة لوصف وفهم اللغة، يهتم التخصص كذلك باللغة من جميع جوانبها، وليس استخداماتها الاجتماعية فقط، فيدرس تاريخها وبنيتها وصوتياتها وشاعريتها.
4. علم الآثار
من أجل عرض طبيعة نوع معين من الكائنات، تلزم مقارنته والإشارة إليه في مقابل أنواع أخرى معروفة لنا بالفعل… ولا يمكن حل المشكلة إلا بمقارنة نوعين من الكائنات العاقلة على أساس الخبرة، لكن الخبرة لم تقدم لنا مقارنة بين نوعين من الكائنات العاقلة.
يهدف إلى الكشف عن ثقافة وتفاصيل حياة المجتمعات التاريخية وقبل التاريخية، بالتنقيب، والتأريخ، وتحليل ما تركته الأجيال السابقة. يعكف علماء الآثار على آلاف قطع الأواني الفخارية وغيرها من التحف للتوصل إلى تصور علمي لطبيعة الحياة الإنسانية قديما.
ويختلف علم الآثار عن علم التاريخ من حيث المادة الخام، فيتعامل علماء الآثار مع المادة الملموسة، في حين يتعامل المؤرخون مع المادة المقروءة مما يقيض مدى اشتغاله بالعصور التاريخية. في الوقت نفسه، قد يستعين عالم اللآثار بمواد كثير من التخصصات الإنسانية والاجتماعية الأخرى، لاستكمال تصوره عن الماضي، فيتقاطع عمله مع علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية والأدب والتاريخ أيضا.
في النهاية، نختم بعبارة للأنثروبولوجي الشهير إريك ولف (1923-1999):
"ليست الأنثروبولوجيا مجالا بحثيا بقدر ما هي ارتباط بين عدد من المجالات. إنها تاريخ من جهة، وأدب من جهة أخرى. إنها علم طبيعي من جهة، وعلم اجتماعي من جهة أخرى. تهدف الأنثروبولوجيا إلى دراسة الإنسان من الداخل والخارج، وتعد طريقة للنظر إلى الإنسان وطريقة للتنبوء بمستقبله في آن واحد. الأنثروبولوجيا أشد العلوم الإنسانية طبيعة علمية، وأشد العلوم الطبيعية إنسانية".
،،،،