لم لا يستعمل الثوريوم بديلًا لليورانيوم في المفاعلات النووية ؟
أُجريت الأبحاث الرائدة المتطورة في المجال النووي بهدف صنع الأسلحة النووية، ولما كان انشطار الثوريوم لا يُنتج البلوتونيوم (أحد العناصر المستخدمة في الأسلحة النووية) منتجًا ثانويًا، أصبح لليورانيوم (الوقود النووي ثنائي الغرض) الأولوية. بدأت الدول أخيرًا تستوعب جوانب السلامة لاستعمال الثوريوم بوصفه وقودًا نوويًا، وبدأت بتطوير مفاعلات نووية قائمة عليه، فبعد الانغماس في مشكلة تشيرنوبل، وجدت نفسي في دوامة غوغل، أبحث عن أسرار المفاعلات النووية وكيفية عملها، وسرعان ما اكتشفت أن التاريخ البشري الحديث ملآن بالحوادث النووية.
منذ إنشاء أول محطة نووية سنة 1954، حدث مئة حادثة نووية خطيرة، أثرت في حياة آلاف بل ملايين البشر والحيوانات، ويكمن سر تلك الحوادث في اليورانيوم، فهو العنصر الأساسي المُستعمل بوصفه وقودًا نوويًا في جميع المفاعلات الموجودة حتى الآن.
من المدهش أنه يوجد بديل أفضل وربما آمن من اليورانيوم، هو الثوريوم، ما يثير التساؤل: هل يمكن تجنب القائمة الطويلة من الحوادث النووية وعواقبها باستعمال الثوريوم بدلًا من اليورانيوم؟ يبعد الثوريوم خانتين على يسار اليورانيوم في الجدول الدوري، ويمتلك خصائص قابلة للمقارنة.
كيف تعمل المفاعلات النووية ؟
قبل توجيه الاتهام لعلماء الطاقة النووية الأوائل لأنهم استعملوا اليورانيوم لا الثوريوم، دعونا ننظر سريعًا إلى كيفية عمل المفاعلات النووية.
يعتمد عمل المفاعلات النووية على الاستفادة من الطاقة الناتجة من الانشطار النووي، وهو تفاعل تنقسم فيه النواة إلى نواتين أو 3 أنوية أصغر، ما يُطلق قدرًا كبيرًا من الحرارة والنيوترونات. تُستعمل الحرارة الناتجة في تسخين الماء وتحويله إلى بخار، يُستعمل بدوره في تشغيل التوربينات التي تحول الطاقة الحرارية إلى طاقة كهربية أو ميكانيكية.
يبدو بسيطًا، أليس كذلك؟
العملية في الواقع أعقد مما تبدو، وتتطلب قدرًا كبيرًا من العناية والخبرة لإدارة المفاعل بأمان.
بالنظر إلى الجانب الكيميائي من العملية، فإن اليورانيوم المُخصب (الوقود النووي) هو المادة التي تخضع لعملية الانشطار في أكثر المفاعلات النووية (تستعمل بعض المفاعلات النووية الموكس، وهو مزيج من البلوتونيوم ونوع من اليورانيوم، وقودًا نوويًا).
نحو 99% من اليورانيوم الموجود في الأرض هو النظير (يورانيوم 238) غير القابل للانشطار، و1% فقط هو النظير القابل للانشطار (يورانيوم 235)، وهو ما يُستخدم في المفاعلات النووية، ومن ثم فهو الأقيم.
يحتوي اليورانيوم المخصب -عبر تقنيات مثل فصل النظائر- على نسبة مئوية متزايدة من (يورانيوم 235) في الخليط الكلي. يبدأ التفاعل الانشطاري عندما يُقذف اليورانيوم المخصب بالنيوترونات، وعند اصطدام النيوترون بنواة (يورانيوم 235)، تنقسم إلى أنوية أصغر مُطلقةً نيوترونات عالية الطاقة.
تمتص ذرات (يورانيوم 235) أخرى النيوترونات المنطلقة، فيبدأ تفاعل متسلسل داخل المفاعل النووي، وتتحرر كمية كبيرة من الطاقة الحرارية، إضافةً إلى إطلاق أشعة جاما ونيوترونات إضافية. وتعتمد كمية الطاقة الحرارية الناتجة على معدل تفاعل الانشطار المتسلسل، ويحدد عدد التفاعلات ومعدلها الحد الفاصل بين المفاعل النووي والقنبلة النووية.
الاستخدامات الأساسية للطاقة النووية
قبل وقت طويل من تطوير أول محطة نووية، استُخدمت الطاقة النووية أصلًا في أغراض مدمرة. إذ قام مشروع مانهاتن، الذي تأسس سنة 1939 بتكليف من الحكومة الأمريكية، على استعمال الطاقة النووية لتطوير الأسلحة، وأفزع العالم بتفجير القنبلة النووية الأولى (اختبار ترينيتي) سنة 1945.
بعد شهر أثبتت أمريكا القدرات التدميرية للسلاح النووي بقصف هيروشيما وناجازاكي، منهيةً بذلك الحرب العالمية الثانية. ودفع الخوف من امتلاك دول معادية مثل هذه الأسلحة المدمرة دولًا أخرى إلى البحث في المجال نفسه.
تلا ذلك طفرة في صناعة الأسلحة النووية على حساب تطوير الطاقة النووية في المجال التجاري. إذ طور كل من الاتحاد السوفييتي والمملكة المتحدة وفرنسا والصين، ثم الهند وباكستان، أسلحةً نووية. إلى جانب دول أخرى مثل كوريا الشمالية وإسرائيل.
طورت جنوب أفريقيا أيضًا أسلحةً نووية، لكنها تخلصت من أسلحتها النووية وأوقفت إنتاجها منذ التسعينيات.
لماذا اليورانيوم؟
يحتوي اليورانيوم المخصب نسبةً مئوية متزايدة من (يورانيوم 235)، لكنه يحتوي أيضًا على (يورانيوم 238) بكميات كبيرة، وعندما يمتص (يورانيوم 238) أحد النيوترونات عالية الطاقة السابحة في المفاعل، يتحول إلى (يورانيوم 239)، قبل أن يتحلل إلى مركبات مشعة أخرى، مثل النبتونيوم 239 والبلوتونيوم 239. أثار الأخير اهتمام الباحثين في مجال الطاقة النووية، إذ سرعان ما اكتشفوا قدراته التدميرية.
كانت قنبلة ناجازاكي المعروفة باسم (الرجل السمين) قنبلة بلوتونيوم 239، أما قنبلة هيروشيما فكانت قنبلة يورانيوم 235.
يحتوي البلوتونيوم 239 على أصغر كتلة حرجة مقارنةً بجميع أنواع الوقود النووي، لذلك يمكنه الحفاظ على تفاعل متسلسل بأقل كمية من المادة. لكن البلوتونيوم كله تقريبًا من صنع الإنسان، ولا يمكن استخراجه من الأرض إلا بكميات ضئيلة، والمكان الوحيد الذي يوجد فيه البلوتونيوم 239 بوفرة هو داخل المفاعل النووي، حيث يتفاعل اليورانيوم 238 مع النيوترونات. وقد أنشأت الولايات المتحدة مفاعلات لإنتاج البلوتونيوم 239.
لكن لا ينتج البلوتونيوم 239 بوصفه ناتجًا ثانويًا لانشطار الثوريوم. تبدأ دورة وقود الثوريوم (الموضحة في الصورة السابقة) بتحويل (ثوريوم 232) إلى (يورانيوم 233) عبر سلسلة من عمليات الانشطار، ويستمر (يورانيوم 233) في لعب دور الوقود النووي في المفاعل.
تنتج دورة وقود الثوريوم البلوتونيوم أيضًا، لكنها نظائر (البلوتونيوم 238) غير القابلة لأن تُستخدَم سلاحًا نوويًا. يمكن استخدام (يورانيوم 233) أيضًا بوصفه سلاحًا نوويًا، لكن وجود (يورانيوم 232) في الخليط يبطل قدراته.
لا يمكن استخدام الثوريوم في صناعة الأسلحة النووية، لهذا اعتمدت عدة دول على مفاعلات اليورانيوم ذات الأغراض المزدوجة بعد الحرب العالمية الثانية، واستُبعد الباحثون الذين دعوا إلى استخدام مفاعلات الثوريوم، ورُفضت أفكارهم لصالح الاستخدامات العسكرية لليورانيوم.
اليورانيوم مقابل الثوريوم
يتفوق الثوريوم على اليورانيوم في عدة أمور أخرى، إلى جانب عدم قابليته للاستخدام العسكري، فهو أكثر وفرةً بثلاثة أضعاف من اليورانيوم، ولا يحتاج إلى إعادة معالجة أو تخصيب مثل اليورانيوم 235.
وفقًا للتقديرات، يوجد في الولايات المتحدة وحدها من الثوريوم ما يكفي لإمداد البلاد بالطاقة مدة 1000 سنة قادمة!
أيضًا يحتوي خام الثوريوم على نسبة من الثوريوم أكبر من نسبة اليورانيوم في خام اليورانيوم، ما يجعل تعدين الثوريوم أكثر فعاليةً فيما يتعلق بالتكلفة وملاءمة البيئة. وفيما يتعلق بجوانب السلامة، تولد مفاعلات الثوريوم نفايات نووية أقل من اليورانيوم.
من المتوقع أيضًا انخفاض النشاط الإشعاعي لنفايات الثوريوم إلى مستويات آمنة بعد بضع مئات من السنين، في حين تبقى النفايات النووية التي تنتجها المفاعلات الحالية مشعةً آلاف السنين، ما يقلل من تكلفة إدارة الوقود المستهلك والنفايات، وأهم من ذلك أن الثوريوم يُعَد مادةً خصبة لكنه غير قابل للانشطار.
لا تخضع العناصر الخصبة لتفاعلات الانشطار تلقائيًا، لكن بتعريضها للإشعاع في المفاعلات النووية يمكن تحويلها إلى مواد انشطارية، ما يعني إمكانية غلق مفاعلات الثوريوم فور وقف تشغيل مصدر النيوترونات.
خاتمة
مع وجود الكثير من المميزات لمفاعلات الثوريوم على حساب مفاعلات اليورانيوم التقليدية، يأتي السؤال: لماذا لم تسُد مفاعلات الثوريوم العالم؟ لأن المميزات لا تأتي دون عيوب. فما زال الكثير من البحث والعمل والاختبارات ضروريًا قبل التحول إلى استخدام الثوريوم، إضافةً إلى متطلبات رأس المال لترخيص الوقود وتصنيعه.
وأصبحت كلمة (نووي) مرادفةً لليورانيوم، لذا فإن أكثر العامة -بل ربما بعض المتخصصين أيضًا- لا يتوقعون وجود بديل آمن. ومع ذلك يوجد بعض الأمل في التغيير، إذ بدأت عدة دول البحث في مجال تطوير المفاعلات النووية القائمة على الثوريوم.
تعمل الهند على خطة من 3 مراحل لتغطية 30٪ من احتياجات البلاد إلى الكهرباء باستعمال مفاعلات الثوريوم بحلول عام 2050، وسيشهد العالم أول مفاعل ثوريوم تجاري في وقت مبكر من عام 2025. وتخطو دول أخرى أيضًا -مثل كندا والصين والنرويج والمملكة المتحدة والولايات المتحدة- نحو الاستفادة من الطاقة النووية النظيفة الآمنة.
أما السؤال المطروح سابقًا: هل يمكن تجنب العواقب والأضرار الناجمة عن العديد من الكوارث النووية؟ الجواب نعم، وربما لا! لكن اعتماد بديل آمن سيساعد بالتأكيد!