لم أكن قد سمعتُ من اللغة العربيّة سوى بعض الآيات القرآنيّة، كان يقرأها رجل من قريتنا، وكان ـ رحمه الله ـ يقلب القافَ كافًا، وكنت في عامي الثالث، عندما كان يشاكسني ابنه البكر ـ رحمه الله ـ وكنت أعيّره وأقول بلغتي الأمّ: إمشِ يا إبن كال بلا ، وكنت أعني أنّ أباك يقول ذلك بدلاً من ( قال بلى )، ولا أدري كيف كنت أميّز هذا وأنا في ذلك السنّ!.
وعندما وصلتُ إلى عامي السابع، تمّ ترحيلنا من قريتنا أطراف مدينة خانقين، إلى مدينة بغداد، وتحديدًا إلى مدينة الثورة، كنت أقف أمام دارنا، أراقب الناس بدهشة وريبة، لا أفهم من كلامهم شيئًا، أشعر بغربة عميقة، تسريحات شعر غريبة، ملامح لم يسبق لي رؤية مثيلاتها، وبعضهم حفاة، هناك مزبلة يلعب فيها بعض الأطفال، وبقربها يشعل أحدهم أكياس النايلون، يحملها ويمشي، يترك النار تنزل خلفه من النايلون على شكل قطرات، تتزامن مع قطرات المخاط، تنزل من أنفه، تمرّ عربةٌ، يجرّها حصانٌ هزيل، يضربه صبيّ بسوطٍ، من أنابيب الماء المرنة، كان يغنّي، كلّا، كان ينادي على بضاعة ما، لكنّه ماكان ليبيع شيئًا، لقد خرجت إليه امرأة من أحد المنازل، اعطته شوالاً من الخبز اليابس، وبضع قنانٍ زجاجيّة، كنت قد رأيتُ حصانًا من قبل، ربّما كان عطّارًا، يمرّ كمذنبِ هالي، بقريتنا النائية، لكنّ حصان العطّار كان أجمل.
وضع أحد الصبية شوالاً مشابهاً لشوال المرأة أمام دارنا، أسنده بقربي إلى الجدار، وخاطبني قائلاً: دير بالك عليها.
بعد أكثر من أسبوع من سماعي لتلك الجملة، فهمت معناها.
كان لجدّي قطيع من الاغنام، اضطرّ أن يبيعها قبل موعد ترحيلنا من القرية، وفي بغداد، حيث لا أرض للرعي، كان الحنين يدفع جدّي أن يشتري خروفًا، ويربطه بنخلة وحيدة، في منزلنا، وعندما يلاعب الأطفالُ ذلك الخروف، كان جدّي ينهرهم، ويقول باللغة الكورديّة : چەتواین لەی بەسە زووانە!
اللغة الكورديّة لغة تركيبيّة، إنّها تشبه الكتابات السومريّة، فإذا أردنا أن نقول( إنتظار) ، نقول (عين طريق) وكأنّها رسم سومريّ تمامًأ ( چەوەڕی)
وكان جدّي يقول عند نهره الأطفال : ماذا تريدون من هذا المسكين، لكنّ مفردة المسكين جاءت من كلمتين وهما: ( معقود ، لسان )
كنت أنا ذلك الطفل الّذي يبكي، بعد أن حلّلت المفردة، ( معقود، لسان ) أبكي على هذا الخروف، وأقول مع نفسي، حقًّا، لو كان يملك لسانًا ناطقًا، لما تجرّأ أحد على إيذائه، ولا حتّى ذبحه وأكله، لو كان ينطق، لكان يملك حقوقًا أكثر، لو كان ينطق، لكانت لهذا الخروف شخصيّة قويّة.
منذ ذلك الوقت، ومذ ذاك البكاء العميق، قرّرت أن أنطق.
كنعان حاتم مراد