إلى أي مدى قد تصل ضخامة البرق ؟
يُعَد البرق أحد أعظم القوى الطبيعية على كوكبنا، وتكشف لنا أدوات الرصد الحديثة الحجم الهائل الذي قد تصل إليه قوة البرق. في 22 أكتوبر 2017 أطلقت غيوم العاصفة التي تجمّعت فوق الولايات المتحدة وميضًا صاعقًا ضخمًا، أضاء السماء فوق تكساس وأوكلاهوما وكانساس، إذ امتد البريق نحو 500 كيلومتر عبر الولايات الثلاث، وهي ظاهرة غير مسبوقة، وصفها الباحثون بالبرق الفائق Megaflash، قائلين: «لقد كان أحد أطول ومضات البرق المسجلة على الإطلاق».
يبلغ طول ومضات البرق العادية 1-20 كيلومتر فقط، لكن كما أوضحت تقنيات الرصد المتطورة، تتصادم الكثير من الصواعق الضخمة في السماء. تثير هذه الاكتشافات الحديثة سؤالًا مهمًّا: إلى أي مدى يمكن أن تصل قوة البرق وضخامته؟ وهل يجب أن نقلق بشأن هذه الظواهر في الغلاف الجوي؟
ينشأ البرق في السحب العاصفة عندما تنشأ شحنة موجبة قوية في مكان ما من السحابة وتنشأ شحنة سالبة قوية في مكان آخر، ما يخلق قوى كهربية بينهما.
وفقًا للفيزيائي دون مكغورمان، كبير الباحثين في الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي NOAA، مؤلف الورقة البحثية التي تناولت ومضة البرق الفائق 2017، يبدأ وميض البرق في منطقة تكون فيها القوى الكهربية قوية للغاية، إذ تصل قوتها إلى درجة يعجز فيها الهواء عن المقاومة، فيتحطم.
هذا يعني إنه كلما ازدادت القوة الكهربية، فإنها تحطم القوى العازلة التي يتمتع بها الهواء، والتي تُبقي عادةً المناطق ذات الشحنات الكهربائية المختلفة منفصلة. يظن الباحثون أن سبب حدوث ذلك هو تراكم القوى الكهربية الهائلة الذي يؤدي إلى تسريع الإلكترونات الحرة (أي غير المرتبطة بذرات أو جزيئات) في الهواء، فتصطدم بالإلكترونات الأخرى التي تنفصل عن ذراتها وجزيئاتها.
تستمر هذه العملية وتُسرِّع حركة المزيد من الإلكترونات، وتسمى الانهيار الإلكتروني electron avalanche، وهذا هو المقصود بانهيار أو تحطم الهواء إذ إنه في الواقع لا يتحطم فعليًّا.
يؤدي ذلك إلى خلق قناة حارة للغاية في الهواء، تعمل بمثابة موصل، تتجه أطرافه نحو الشحنات الموجبة والسالبة المتسببة في الانهيار. تربط القناة الناشئة بين الشحنات، وتعمل على تشغيل التيار الكهربي الهائل وهو البرق lightning flash. يقول مكغورمان: «فكّر في الأمر كشرارة عملاقة نشأت عبر سحابة».
أحيانًا لا تحتوي المنطقة المنخفضة من السحابة -والتي تحتوي عادةً على شحنة موجبة- على شحنة كافية لإيقاف القناة. فتستمر صاعقة البرق في الامتداد نحو الأرض، ساحبةً شرارة صاعدة من الأرض قبالتها، ما يؤدي إلى وميض صاعق بتيارات كهربية ضخمة، هذه القنوات السحابية-الأرضية، أو الصواعق، هي ما يتصوره معظمنا عندما نفكر بالبرق، تلك الأشواك الحية التي تضرب الأرض.
لكن ما العوامل التي تحد من حجم هذه الشرارات الضخمة؟ يحاول الباحثون الإجابة عن هذا السؤال منذ عقود. يقتصر نطاق الوميض رأسيًّا على ارتفاع سحابة العاصفة، أو المسافة بين الأرض وذروة السحابة، أي نحو 20 كم بحد أقصى، لكن أفقيًّا يوفر النظام الكهربي للسُحُب مساحةً أكبر.
سنة 1956 أثبت خبير الأرصاد الجوية Myron Ligda ذلك، عندما استخدم الرادار لاكتشاف أطول ومضة صاعقة مسجلة آنذاك، وهي صاعقة امتدت 100 كم.
وسنة 2007 حطّم الباحثون الرقم القياسي برصد وميض فوق أوكلاهوما بلغ طوله 321 كم. كان الضوء المنبعث من البرق قويًا لدرجة إضاءة 67,340 كيلومتر مربع من الأرض، وتحطم الرقم من جديد وفقًا لدراسة نُشرت في مجلة JGR Atmospheres، إذ رُصد وميض يمتد مسافة 673 كيلومترًا.
تُعَد ظاهرة البرق الفائق نادرة، لكن تكرر رصدها بسبب تطور تقنيات الرصد، فبدلًا من الاعتماد على الأنظمة الأرضية التي تستخدم الهوائيات والرادار، يستخدم الخبراء الآن الأقمار الصناعية.
قيست جميع الأرقام القياسية السابقة باستخدام تقنية تسمى مخطط البَرق الأرضي الثابت Geostationary Lightning Mapper، وهو مستشعر موجود على قمرين صناعيين يدوران حول الأرض، ما يوفر صورة موسعة للعاصفة الحادثة أسفل منه.
يستجيب هذا النظام للضوء المنبعث من قمة السحب، لذلك نرى الضوء المتوهج من البرق ويمكن تسجيله في نطاق نصف الكرة الأرضية.
وباستخدام بيانات النظام الأرضي: مجموعة خرائط البرق Lightning Mapping Array، رسمت بيانات الأقمار الصناعية المرئية عالية الدقة صورةً للمدى الهائل لضوء البرق الحادث في أكتوبر 2017.
ومع ذلك فإننا ما زلنا نجهل طريقة نمو هذه الإضاءات الكهربائية الضخمة لفترة طويلة. يظن الباحثون أن حجم السحب هو أحد العوامل، لأنه كلما زاد حجم السحب زاد احتمال وجود ومضات البرق داخلها. ويضيف مكغورمان أن نظام البرق يحتاج أيضًا إلى تدفقات الرياح واسعة النطاق لتمكنه من الارتباط والاستمرار فترةً طويلة. إذًا ما الذي يحدث بالفعل داخل هذه السحب الهائلة؟
يقول كريستوفر إيميرسيك، الباحث في جامعة مانشستر- المملكة المتحدة: «إن هذه الومضات التي يحدثها البرق هي سلسلة متواصلة من عمليات التفريغ الحادث في تتابع قريب جدًا. ويُفترض أنه إذا كانت سلسلة السحب مشحونة للغاية وتغطي مساحةً كبيرة، فإن عمليات التفريغ تحدث ضمن سلسلة تنتشر مثل قطع الدومينو، التي تتساقط جميعًا فور إسقاط إحداها، بشرط عدم وجود فجوات بينها وإلا تفشل السلسلة، ونرى بدلًا من البرق الفائق حدوث صاعقة أصغر».
وكلما كانت السحابة الأم أكبر زادت فرصة التفريغ المستمر في الانتشار. يقول إيميرسيك: «تتوقف قوة البرق الفائق على ضخامة السحابة الأم، شريطة اتصال البنية الموصلة للشحنات، ما يعني احتمالية وجود ومضات أكبر بكثير مما رأيناه بالفعل».
بعبارة أخرى، ما زلنا لا نعرف بالضبط حجم أكبر صاعقة. ومع الصورة المروعة التي يرسمها هذا الاحتمال، فإن عواصف البرق الكبيرة التي نسميها البرق الفائق ليست بالضرورة أكثر خطورة من الصواعق العادية، إن عاصفة البرق الواسعة لا تعني بالضرورة أن البرق يحمل طاقةً أكبر.
ولأن مجموعات السحب التي تسبب نشأة هذه العواصف لها منشأ واسع للغاية، يصعب التنبؤ بحدوث مثل هذه العواصف الشديدة.
وقال إيميرسيك: «يمكن أن تؤدي مثل هذه الأحداث إلى ضربات أرضية بعيدة عن منشأ النشاط الرئيسي للبرق، فقد يعتقد شخص ما على الأرض أن العاصفة قد مرت، ولكن سيتفاجأ بعملية تفريغ ضخمة تشمل مساحةً واسعة».
من المحتمل أيضًا في عالم ترتفع درجة حرارته أن تزداد احتمالية حدوث عواصف تؤدي إلى نشوء ومضات ضخمة من البرق، أي إن الظروف المناخية الحالية قد تزيد من احتمالية حدوث مثل هذه الظواهر.
ومع ذلك لا تُعد هذه الومضات الضخمة شائعة، وفقًا لمكغورمان فهي تشكل نحو 1% فقط من مجمل عواصف البرق. ومع ذلك سيواصل الباحثون اكتشاف المزيد من هذه الظواهر العملاقة التي تثير فضولنا وإعجابنا.