منذ ظهور فيروس كورونا المستجد في مدينة ووهان بالصين في 29 ديسمبر من عام 2019، كان العلماء في حيرة من أمرهم بشأن مصدر الفيروس الذي أصاب 5 ملايين من سكان الكرة الأرضية حتى 21 مايو 2020. لكن أغلب الظن دار حول المصدر الحيواني للفيروس، والذي رجَّح العلماء أن مصدره حيوان البنغول (أم قرفة). وعلى الرغم من تأكيد العلماء على ذلك، لا تزال الشائعات منتشرة بشأن احتمالية أن يكون كورونا سلاحًا بيولوجيًّا نشأ في أحد معامل الصين أو الولايات المتحدة، في ظل الصراع السياسي الاقتصادي بين البلدين.

رأي العلم بشأن المصدر الحقيقي لفيروس كورونا المستجد

تكتب منظمة الصحة العالمية على موقعها على الإنترنت أن كل الأدلة العلمية تشير إلى أن فيروس كورونا المستجد أصاب البشر من مصدر واحد؛ بعدما تأكد تطابق المحتوى الجيني لكل الفيروسات المستخلصة من البشر المصابين. كما كتبت منظمة الصحة العالمية أن المصدر المرجَّح لهذا الفيروس هو سوق الحيوانات البحرية في مدينة ووهان بالصين، الذي تُباع فيه الحيوانات البحرية وأنواع من الحيوانات البرية، وقد كانت العينات المأخوذة من السوق إيجابية، ما يثبت صحة منشأ الفيروس من تلك المنطقة.

نشرت دورية نيتشر العلمية المرموقة مقالُا في 26 مارس 2020 تتحقق فيه من مصدر الفيروس المستجد باستخدام الوسائل العلمية.

فلكي ينتقل كائن مُمرض من الحيوانات إلى البشر، ربما ينتقل مباشرة من الحيوان الحامل للفيروس إلى الإنسان بالمخالطة، وربما يحتاج الكائن إلى الانتقال من الحامل الحيواني الأولي إلى عائل وسيط (حيوان آخر) ومنه إلى الإنسان. وقد أقام الباحثون خريطة للتسلسل الجيني لفيروس كورونا مرتبط بالبنغول ينتمي إلى عائلة تضم فيروس سارس-كورونا-2، ومنها فيروس يظهر تشابهات قوية بالنسبة لذراع الفيروس التي تصيب مستقبلات الخلايا البشرية.

تؤكد الأبحاث المنشورة في دورية نيتشر أن الحامل الحيواني للفيروس هو الخفاش، ويرجَّح أن يكون البنغول عائلًا وسيطًا لكورونا تسبب في إصابة الإنسان.

نظرية المؤامرة: الدماغ البشري يعمل لراحتك، ولكن

في ورقة علمية شهيرة تتناول سيكولوجيا نظرية المؤامرة، نشرها الباحثون من جامعة فيرجي أمستردام في هولندا Vrije Universiteit Amsterdam، عرَّف الباحثون نظرية المؤامرة بوصفها «افتراض أن مجموعة من الناس يتجمعون سويًا ويخططون لتحقيق أهداف شريرة». تربط تلك الدراسة بين الاعتقاد في نظرية المؤامرة والاعتقادات غير العقلانية بشكل عام؛ فإذا كان الفرد يعتقد في نظرية المؤامرة، لن يغير رأيه عندما تُعرض عليه الحقائق وحدها، فثمة آليات سيكولوجية تقبع خلف مثل تلك الاعتقادات.

سلط علماء السيكولوجيا الضوء على نظرية المؤامرة، وأنتجوا عددًا من الفرضيات الناجعة لتفسيرها، إليك أهم الفرضيات التي توضح أسباب اعتقاد الناس في نظرية المؤامرة.

إدراك الأنماط الوهمية

تُعتبر فرضية إدراك الأنماط الوهمية Illusory Pattern Perception أشهر الفرضيات التي طورها علماء السيكولوجيا لتفسير نظريات المؤامرة. تُعرَّف ظاهرة إدراك الأنماط الوهمية بأنها القدرة على تصور وتشكيل صلات ذات معنى بين مؤثرات عشوائية لا تحمل هذا المعنى بالضرورة. على سبيل المثال، قد يحلم بعض الناس بأحد أقربائهم أثناء النوم، ثم يسمعون أخبارًا عن وفاة هذا الشخص، فتكون تلك المؤثرات كافية بالنسبة لهم لاستنتاج أن أحلامهم تتنبأ بالمستقبل.

يرجح الباحثون أن القدرة على اكتشاف الأنماط والنظام من الفوضى كانت قدرة أصيلة للبشر، وساهمت تلك القدرة على تطور الإمكانات الإدراكية البشرية عن الأنواع الدنيا من الحيوانات، أي أن لتلك القدرة فائدة تكيفية ساهمت في تطور الإنسان.

ولكن تلك القدرة لم تُكتسب دون تكلفة. فمن الصعب على البشر تمييز الأنماط الحقيقية عن تلك الوهمية. ينفر الدماغ البشري من الفوضى والعشوائية، ويحاول دائمًا محاربة اللايقين، لذا يحاول إيجاد الصلات بين الأمور غير المتصلة، وإن لم يجد تلك الصلات يختلقها. يقترح الباحثون أن لتلك القدرة –وجانبها الوهمي- وظيفة تطورية. فربما يكون إدراك اختلاف الأنماط قديمًا بين الحشائش والمفترسات عاملًا ساعد البشر على النجاة في البراري، وربما تكون وظيفتها إيجاد تفسيرات للفوضى التي اعترت البشر قديمًا، وبالتالي تقضي على الأفكار غير المريحة والقلق الناجم عنها.

الدماغ والعشوائية، علاقة غير جيدة

يسعى الدماغ البشري دائمًا إلى الحصول على الإجابات، ولا يطيق العشوائية أو الاعتباطية. تشير النتائج التجريبية من دراسة جامعة فيرجي في أمستردام (2014) إلى ارتباط النزوع إلى إضفاء المعنى على الأحداث العشوائية بصورة وثيقة بالأحداث ذات العواقب التي تهدد الأمن والسلام الاجتماعي للمرء. وفي حالة فيروس كورونا المستجد، فلا حدث يفوق عشوائية هذا الفيروس، إذ أن البشر يواجهون الآن كائنًا يهدد حياتهم بصورة مباشرة، بلا تخطيط أو قصد مسبق، وتلك العشوائية تحديدًا مزعجة للدماغ البشري، فيحاول التخلص منها عبر نظريات المؤامرة.

يكتب الباحث ستيفن غ. برونير في ورقة علمية منشورة في دورية التقارير السيكولوجية Psychological Reports، عبر تجربة أجراها على 57 من المشاركين قائلًا: “إن احتمالية تصديق نظرية المؤامرة لا تعتمد فقط على قوة الدليل الذي يدعم المؤامرة من عدمها، بل تتوقف أيضًا على وضوح دافع المتآمرين”. إذا كانت الدلائل تشير إلى دافع قوي للمتآمرين، مثل محاولة بعض الدول أن تدخل حربًا بيولوجية مع دولة أخرى في ظل التنافس السياسي الاقتصادي بين البلدين والمشاحنات المتبادلة بينهما، سيميل الناس إلى تصديق تلك الفرضية.

القابلية للتنبؤ والسيطرة والسلامة النفسية

في دراسة سريرية أجريت على المسنين، ونُشرت في دورية الشخصية والسيكولوجيا الاجتماعية Personality and Social Psychology عام 1976، أجرى الباحثون تجربة على أربع مجموعات من المسنين، لاختبار أثر الأحداث المفاجئة والقابلة للتنبؤ على حالتهم النفسية. تعرَّضت المجموعة الأولى لعدد من الزيارات من طلاب الجامعة بصورة عشوائية تمامًا، وكان المشاركون على معرفة بعدد الزيارات ومدة الإقامة في المجموعة الثانية، أما المجموعة الثالثة كانت مجموعة الضبط، ومثلت المجموعة الرابعة مجموعة قاعدية للمقارنة بين المجموعات. وكانت النتيجة أن الأحداث القابلة للتنبؤ والتحكم لها آثار إيجابية هائلة على السلامة النفسية للمسنين.

يكتب ريتشارد هوفستادتر في كتابه الأسلوب الهوسي في السياسة الأمريكية (1966) أن نظريات المؤامرة تلعب دور المعين للمواطنين الذين يشعرون بالعجز وقلة الحيلة في الفضاء الاجتماعي، ولا يستطيعون فهم الأحداث الاجتماعية المعقدة والمرهقة.

تُظهر تلك النتائج أن الأحداث التي لا يمكن التنبؤ بها تثير قلقًا لدى الأفراد، إذ لا يمكنهم توقع مسارها أو التحكم بها، فضلًا عن خضوعهم لأخطارها، لذا يلجأ الدماغ إلى الحجة الأسهل من حيث المعالجة الإدراكية، ويرجح نظرية المؤامرة عن مصدر آخر عشوائي مثل الإصابة من الحيوان.

الدوافع الاجتماعية والشعور بالانتماء

بالإضافة إلى التفسيرات السببية والنفسية، لا تقل التفسيرات الاجتماعية أهمية عنهما. تحفز الدوافع الاجتماعية على الاعتقاد في نظريات المؤامرة؛ إذ يهدف الأفراد من خلالها إلى الحفاظ على صورة إيجابية عن جماعتهم الاجتماعية. يقترح الباحثون أن نظريات المؤامرة تعين المجموعات الأقل حظوة في المجتمع عبر إلقاء اللوم على الجانب الأقوى حول سلبيات المجتمع، محاولين بذلك الدفاع عن صورتهم الاجتماعية من التهديد.

يدعم الباحثون بصورة عامة هذا التوقع. وتؤيد نتائج الدراسات أن الأفراد المنتمين إلى جماعة متدنية المكانة، من حيث الإثنية أو الدخل، يدعمون نظريات المؤامرة. كما أن الأفراد المنتمين للجانب الخاسر في انتخابات سياسية يميلون إلى الاعتقاد في نظرية المؤامرة عن الجانب المنتصر. تقترح تلك النتائج أن استدعاء نظريات المؤامرة يهدف إلى تخفيف العبء على النفس من وطأة المخاطر والخسائر التي تلحق بهم.

وبناءً على ما ورد، فإن أزمة نظرية المؤامرة وأضرارها، من حيث امتناع الناس عن الالتزام بإجراءات الحجر الصحي، ظنًا منهم أن تلك مؤامرة تُحاك ضدهم، من المستبعد حلها بالأدلة العقلانية، فمنشأ تلك المعتقدات إنما يرجع إلى عوامل نفسية واجتماعية تعيق الاعتقاد في الحقائق. ولكن الوعي بمثل هذه الآليات الدفاعية النفسية يمثل الخطوة الأولى للتخلص من تلك الأوهام، وهذا ما حاول المقال أن يضع القارئ على أول طريقه.



محمد إيهاب - اراجيك