الغازي خسرو بك والعهد الذهبي لـ «قدس أوروبا»
مسجد الغازي «خسرو بك» بالعاصمة البوسنية سراييفو
انظر إلى ما فعل، زرع نعمًا لا تنتهي، بنى خيرًا في كل مكان، وأعاد الشباب لقلب البوسنة. وتغيّرت طبيعة الناس، فالقلب الصافي قد انتشر، وذاب الخبث إلى الأبد، وهبّ الخير من كل الأنحاء، و تزخرفت الأسواق، وهبّ الفقراء مسرعين، فقد جاء الغازي خسرو بك.
لا شخصية تاريخية تثير في الخيال الجمعي لمسلمي البوسنة ما يثيره الغازي خسرو بك، ويعكس هذا الجزء من شعر القصائد الشعبية SEVDALINKE بعضا من الشغف بسيرته النبيلة، وحين تتجوّل في أنحاء السوق القديمة بسراييفو Bascarsija حتمًا ستدرك كم هي روحه خالدة، تلمح هذا في المباني الخيرية المهيبة التي تركها وراءه، مانحة سراييفو ذلك الطابع الإسلامي الشرقي الذي يميزها عن بقية العواصم الأوروبية، وهو الأمير ذو النسب البوسني – العثماني المشترك، ولا نستطيع الحديث عن تاريخ البوسنة والهرسك الإسلامي دون ذكر الغازي خسرو بك الذي ارتبط اسمه بأزهى فترات البوسنة عامة، وسراييفو خاصة.
من أوقاف الغازي خسرو بك بالسوق القديمة بالعاصمة البوسنية سراييفو
ولد هذا الرجل العظيم عام ١٤٨٠ في منطقة سيريز الموجودة في اليونان حاليًا ، إذ كان أبوه واليًا عليها ، وينتمي أبوه لمنطقة الهرسك، وهو من عائلة مالكة حكمت البلقان قبل الفتح الإسلامي، واسمه فرهاد بن عبد الله (يبدو من الوثائق أنه قام باعتناق الإسلام لان اسم الوالد عبد الله كان عادة يستعمله المسلمون الجدد إبان الإمبراطورية العثمانية بدلاً من اسم الأب المسيحي)، أمه هي سلجوقة ابنة السلطان بايزيد الثاني ابن محمد الفاتح.
ومما يثير الانتباه تعدد حالات الزواج بين أمراء وأميرات عثمانيين وبين قوميات أخرى، ولربما يعتبره بعض المؤرخين دلالة على اتباع أسلوب المصاهرة لدى العثمانيين كدبلوسية ذات مفعول كبير، ولكنه أيضًا مؤشر على قوة الروح الإسلامية العثمانية التي وحدت الأجناس وحققت المساواة بينهم. تذكر المصادر التاريخية أن السلطان بايزيد الثاني – جد خسرو – زوج ثلاثة من بناته لبوسنيين، منهم والد خسرو الذي توفي في سن مبكرة في ميدان القتال بين العثمانيين والمماليك ولذا تربى ابنه في بلاط جده السلطان في إسطنبول.
كان السلطان بايزيد الثاني يميل للسلام ، لذا على عكس فترتيحكم والده السلطان محمد الفاتح وابنه السلطان سليم الأول التي حفلت بالفتوحات لمناطق جديدة، شهد عصره معاهدات سلمية مع دول الجوار، وازدهرت حركة العمران في إسطنبول من مساجد ومدارس، ولربما أثّر هذا في مسيرة الحفيد خسرو بك، الذي حرص إلى جانب مشاركته وقيادته المظفرة للغزوات والانتصارات على الاهتمام البالغ بحركة التعمير والإنشاء.
من الدبلوماسية إلى ميادين القتال
أولى خطوات خسرو بك العملية كانت في السلك الدبلوماسي ، إذ عمل مرافقًا لخاله الأمير محمد والي القرم، وكان مبعوث الدولة العثمانية إلى أمير روسيا عام ١٥٠٣، ثم انتقل بعدها إلى عالم الحكم عام ١٥٠٤ حيث تدرج في عدة مناصب إدارية في خدمة الدولة العثمانية، وصولاً لمنصب الولاية عام ١٥١٩ فأصبح والي مدينة سميدرفو الصربية الواقعة على الحدود الفاصلة بين الإمبراطورية العثمانية والمملكة المجرية، وتلك المدينة كانت قاعدة لانطلاق الحملات العسكرية نحو الغرب.
عام ١٥٢٠ تولى السلطان سليمان القانوني الحكم، وكان توليه الحكم نقطة فارقة آذنت بارتقاء خسرو بك المجد العسكري والسياسي، فقد اتجه السلطان سليمان القانوني في حملة عسكرية نحو بلغراد، ولعب خسرو بك دورًا هامًا ومؤثرًا في حصار تلك المدينة المنيعة، حتى تم الاستيلاء عليهابتاريخ ٣٠ أغسطس/آب ١٥٢١، على إثر ذلك لقّبه السلطان سليمان بـ «الغازي» تقديرًا لشجاعته وكفاءته، وعيّنه واليًا على سنجق البوسنة.
لكن تولي خسرو بك مهمات الولاية لم يمنعه من مواصلة القتال وتقدم الدولة العثمانية في المناطق المحيطة، فقد استولى على عشرات المدن في الهرسك وكرواتيا ، وكان على رأس الجيش البوسني الذي كان جزءًا من الجيش العثماني في معركة موهاكس الفاصلة ضد مملكة المجر في عام ١٥٢٦، والتي انتهت بالاستيلاء على عاصمة المملكة بودابست، ودخلت المجر تحت سلطة الدولة العثمانية وبذلك ترسخت مكانة الغازي خسرو بك كأحد أنجح القادة العسكريين العثمانيين آنذاك ، وشارك في حصار فيينا الأول في ١٥٢٩ والثاني عام ١٥٣٢، ثمّ عيّنه السلطان على رأس ولاية بلغراد في ١٥٣٣، ولكنه بناءً على رغبته أعاده واليًا على البوسنة التي بقي واليًا حتى وفاته في ١٥٤١، حيث دفن في ساراييفو التي أحبها والتي وصلت في عهده إلى عصرها الذهبي.
والي البوسنة
تحدث الرحالة أوليا جلبي عن سراييفو حين زارها في أواسط القرن السابع عشر الميلادي:
مدن كثيرة تحمل اسم سراي في ثناياها، مثل آق سراي بالأناضول، تابي سراي بين فارس وجرجستان وداغستان، شهر سراي على ساحل نهر أردل، فيزي سراي في الرومللي وغيرهم، لكن هذه المدينة هي الأكثر تقدمًا وجمالاً وحيوية، تنحدر المياه من أعلاها ومن أسفلها عبر الجبال أما حقولها الواسعة فهي مثل شجيرات الورد أو مثل الجنات المسيّجة.
وفي الحقيقة هذا الوصف لم ينطبق عليها قبل ذلك، ففي عام ١٤٦٣ حين دخلها العثمانيون كانت مدينة صغيرة ذات قلعة قديمة، ثمّ وضع الوالي عيسى إسحاق بك معالم أسس سراييفو الحالية، إذ أقام فيها أول مقر إدارة عثماني في البوسنة، وبناءً على ذلك سميت «سراي أوفاس» بمعنى «الحقل حول القصر»، لكن السكان المحليين حوّروا الاسم التركي ليصبح سراييفو، وأقام فيها أول جامع للمسلمين، ثم تعاقب عليها ولاة آخرون، حتى جاء الغازي خسرو بك بعد ستين عامًا من الحكم العثماني لسراييفو، ليصبح واليًا على سنجق البوسنة، ودامت ولايته عليها عشرين عامًا مع بعض فترات الانقطاع الصغيرة حين كان يشارك في الغزوات البعيدة التي تتطلب ابتعاده عن المدينة لفترة طويلة.
قدس أوروبا
من أشهرالأعمال التي قام بها خسروف بك أثناء توليه منصبه إصدار وثيقة «أمر نامة» عام ١٥٣٢ يضمن فيها الحرية الدينية لجميع المقيمين في البوسنة والهرسك، و ما زالت تلك الوثيقة محفوظة ضمن الأرشيف التاريخي لسراييفو وتعد أقدم وثيقة أصلية فيه، وسمح للأرثوذكس ببناء كنيسة لهم بعد عامين فقط من بناء الجامع في السوق القديمة في قصة طريفة يتناقلها الناس عبر الأجيال، وبعد بناء الكنيسة قدم الكثير من الأرثوذكس للعيش في سراييفو.
وكانت مجموعة كبيرة من اليهود السفرديم القادمين من الأندلس بعد اضطهادهم من كاثوليك الإسبان قد استقرت في سراييفو قبل ذلك بين عامي ١٤٩٢ و١٤٩٧ بعد سماح الإمبراطورية العثمانية لهم وبنوا معبدهم القائم حتى الآن، وبذلك استحقت سراييفو لقب «قدس أوروبا» الذي شاع وصفها بهلاحتضانها الأديان السماوية الثلاث في بقعة جغرافية صغيرة.
الأثر الحضاري
لا يخلو شارع أو زقاق في السوق القديمة في سراييفو من ذكر لاسم الغازي خسرو بك، ولا زالت النقوش العثمانية بالأحرف العربية شاهدة عبر الزمن على حبه لها حين اختارها مستقرًا ومثوى، وحين عمّرها ورفع من شأنها فتحوّلت إلى مركز تجاري رئيسي في منطقة البلقان، والعمارة الباقية هي جزء فقط من العمارة الأصلية بعد نجاتها من الحرائق المتتالية والحروب الكثيرة، وأشهر تلك المنشآت:
1. جامع غازي خسروف بك الكبير
يعتبر من أكبر وأجمل المساجد في البوسنة والهرسك، شيّد في عامي ١٥٣٠-١٥٣١، صممه عجم عسير علي، التبريزي الأصل وأستاذ المعماري الشهير سنان. نلمح في بناء هذا الجامع المهيب ثمرة التعايش مع العالم الإسلامي، الذي يجمع بين العلوم والفنون بكل تلقائية، وينفتح على جميع الثقافات والأجناس، وربما يستغرب البعض عندما يعلم أن الطابع المعماري الفريد لمسجد الغازي خسروف بك في سراييفو قد ظهر قبل عشر سنوات من انتشاره في إسطنبول.
صحن مسجد الغازي بمدينة سراييفو، وفي الخلفية يظهر برج الساعة
2. مدرسة غازي خسروف بك الدينية
أنشئت كمدرسة لتحفيظ القرآن الكريم بجوار المسجد، ورصد لها مبلغ سبعمئة ألف درهم سنة ١٥٣٧ لكي يتم الإنفاق على شؤونها، أراد الغازي خسرو بك أن تكون هذه المدرسة مكرمة لأمه فسماها باسمها «سلجوقة». كانت هذه المدرسة أهم مؤسسة علمية تربوية في البوسنة والهرسك طوال الحكم العثماني، بقيت هذه المدرسة إلى الآن قائمة تخرج طلبة علم كل سنة، وكان الغازي خسروف بك بعيد النظر، حيث أمر بألا تقتصر مناهج الدراسة على العلوم التي ذكرت في وقفيته بل أن تتقدم وتتطور وتشمل العلوم الأخرى حسب متطلبات الحياة ومقتضيات الزمان. وقد زادت أعداد المواد فعلا حتى بلغت 14 مادة في مختلف العلوم خلال القرن السادس عشر الميلادي.
على اليسار، مدرسة غازي خسرو بك التي تحولت إلى متحف خاص عن حياته
3. مكتبة غازي خسروف بك للمخطوطات والكتب الإسلامية
تأسست في نفس سنة تأسيس المدرسة ١٥٣٧، وكانت ضمن إطار المدرسة، ثم انتقلت إلى مبنى جديد في عام ١٨٦٣، وتعتبر أغنى خزينة للمخطوطات الشرقية في البوسنة والهرسك، وهي المكتبة الوحيدة في أوروبا على هذا الطراز، تجاوز عدد المخطوطات فيها ١٠ آلاف مخطوط، ومن أقدم المخطوطات التي تضمها مكتبة الغازي خسرو بك كتاب إحياء علوم الدين؛ للشيخ الغزالي الذي كتبه حوالي سنة ٥٠٠ هجرية،تضم المكتبة مخطوطات من جميع العالم الإسلامي، وهي وصلت إلى البوسنة عن طريق الطلاب البوسنيين الذين درسوا العلوم الإسلامية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
4. خط تزويد المياه
أمر الغازي بإقامة خط لتزويد المياه إلى سراييفو، ويعتبر أطول خط تزويد بالمياه أقيم في القرن السادس عشر في أوروبا، في تلك الحقبة كانت سراييفو هي من أوائل المدن الأوروبية التي عرفت نظام شبكات مياه الشرب، وسبقت بذلك مدينة لندن التي أسست شبكتها في عام ١٦٠٩ وفيينا في ١٥٥٣ وباريس ١٦٠٢.
5. برج الساعة
أحد المعالم الشهيرة في سراييفو، صمّم للتعريف بمواقيت شروق الشمس ومواعيد الصلاة وليس مؤكدًا إن كان قد شيّد في عهد الغازي خسروف بك ولكنه أمر ببنائه وهو ضمن وقف الغازي.
6. البيزستان (السوق المسقوف)
متحف غازي خسرو بك بسراييفو
يمثّل نموذجًا مصغّرًا للأسواق العثمانية التقليدية ببنائه وتصميم الدكاكين فيه، وساعد إنشاؤه على تطور التجارة بشكل سريع في سراييفو، ونموها لتصبح من أقوى مراكز التبادل التجاري بين الشرق والغرب، في تلك الحقبة الزمنية كثيرون من تجار هذا السوق كانوا من غير المسلمين، ومارسوا تجارتهم بكل حرية ضمن هذا الوقف.
السوق المسقوف (البيزستان) في سراييفو
وبعد وفاة الغازي خسروف بك تم بناء أوقاف أخرى مما تركه من أموال للخير، ومنها مجمع كامل يحوي مطعمًا للفقراء وخانًا للمسافرين وأول مستشفى في سراييفو، هو من أوقاف الغازي خسرو بك الباقية حتى الآن، وقدر بعض الباحثين عدد الأوقاف التي أسسها الغازي خسرو بك بأكثر منثلاث مائة وستين وقفاً.
ولتمويل هذه المنشآت الخيرية أوقف الغازي خسرو بك مائتي متجر من سوق سراييفو وكذلك الأراضي الواسعة الموجودة بالقرب من مدينة يايتسا وغابات مدينة تيشان.
ومما يذكر من تأثير الوجود الإسلامي في منطقة البلقان عامة وتعد سراييفو النموذج الواضح لها دور الوقف في تأسيس المدينة، حيث يكون الوقف الذي يقيمه صاحب السلطة مركز جذب للسكان للإقامة ومزاولة العمل وتنشيط الاقتصاد والتصنيع المحلي، وأحيانًا يغيّر مصير المناطق فتتحول من هامشية إلى محورية كما يحدث عند إقامة الجسور مثلاً، وينتفع بها كل أهل المنطقة؛ مسلمون وغير مسلمين.
ضريح الغازي خسرو بك بالعاصمة البوسنية سراييفو
توفي الأمير غازي بعد إصابته في إحدى المعارك مع الصرب في منطقة الجبل الأسود، وتم نقل جثمانه بناءً على وصيته إلى سراييفو، حيث تمّت الصلاة عليه ودفنه في باحة مسجده الكبير، و يمكننا مشاهدة ضريحه، وتحوّلت سيرته لتراث شعبي، وألّفت قصائد مغناة تحكي فضل الرجل العظيم الغازي خسرو بك.