قصة من تاريخ بغداد
بغداد في العام 1621، فوق مياه نهرها الخالد دجلة يطفو قارب مملوء بالكبريت والقار تشتعل فيه النيران، وبداخله رجال مربوطين بالقارب وظل أهل بغداد يسمعوا صراخهم حتى أبتلع النهر رمادهم. بعد سنتين سيتكرر المشهد، ففي عام 1623 كان الصوباشي بكر الذي أمر بحرق القارب بمن فيه، هو الآخر مقيداً في قارب وقد صُبَ النفط والقطران في أطرافه وأشعلت فيه النيران وأُحرق والقارب فوق مياه دجلة. فمن هو الصوباشي وما هي حكايته؟
تبدأ الحكاية التي يجب ان تأخذ مكاناً بارزاً بين حكايات الخيانة والغدر، بعد تولي الوالي العثماني يوسف باشا السلطة في بغداد عام 1616م وهو من أصل بوسني (البوسنة والهرسك الحالية والتي كانت جزءاً من يوغسلافيا)، وقد شهدت بغداد في عهد هذا الوالي حالات من التمرد ضد السلطة انتهت بقتله على يد بكر الصوباشي ثم استيلائه على السلطة في بغداد دون موافقة الدولة العثمانية، والصوباشي هذا كان فرداً من افراد الينكرجية ( الإنكشارية ) والتي تعني " الجنود الجدد " وهي قوة مشاة من النخبة في الجيش العثماني فوصل الى رتبة صوباشي أي رئيس الجند ثم صار آغا الإنكشارية أي القائد وصار له نفوذ في بغداد وكان جباراً عنيداً يمارس الظلم والقهر ويفتك بالمعارضين له، وكان لديه الكثير من الأعوان حيث كان تحت قيادته أكثر من اثنا عشر الفاً من العسكر، وأخاف هذا الكثير من أعيان بغداد فمالوا اليه خوفاً وطمعاً، كما انظم اليه كذلك الكثير من أهلها وصار يتحكم بمجريات الأمور في المدينة وبقي في هذا المنصب مدة غير قليلة وكان نفوذه واسعاً لدرجة ان الوالي يوسف باشا يخافه ولا يستطيع مخالفته او معارضة رأيه حتى صار هو الحاكم الفعلي كون جميع عسكر بغداد بيده، أما الوالي فكان له الاسم فقط. ظل الوالي يتحين الفرص للإيقاع به والخلاص منه، وحانت الفرصة عندما خرج بكر الصوباشي على رأس مجموعة من اتباعه عام 1621 م لقمع تمرد بعض قبائل الفرات الأوسط في السماوة والناصرية وامتناعهم عن دفع الضرائب بالإضافة الى وجود مجموعة من كبار الإنكشارية كانت قد خاضت صراعاً عنيفاً معه ثم لجأوا الى هناك واخذوا يحرضون الفلاحين على التمرد. وأقام ابنه بدلاً عنه في بغداد اثناء غيابه، وهنا وجد المعارضون لبكر صوباشي أن غياب خصمهم فرصة مواتية للإطاحة به وأبعاده عن بغداد، كان على رأس هؤلاء محمد آغا قنبر خصمه اللدود الذي كان قائد قوة العزاب وهم أربعة آلاف مقاتل كانوا من غير المتزوجين لذا سموا بالعزاب، الذي أجتمع مع بعض كبار الإنكشارية واشراف المدينة وأوضح لهم نوايا صوباشي وانفراده بالسلطة بباشوية بغداد لقاء قضائه على التمرد الأخير، وقرر المجتمعون تقديم شكوى للوالي بعزله وابلغوا الكهية وهو اعلى موظف اداري في دار الحكومة لإبلاغ قرار الاعيان إلى الوالي، لكن الكهية نفسه كان من اتباع الصوباشي بكر، فقام هو ومحمد ابن الصوباشي بمحاصرة الحاميات التي يتمركز فيها جنود الوالي وحدثت مناوشات في شوارع بغداد بين الطرفين فكتب محمد قنبر رسالة وسلمها الى احد اتباعه ليوصلها على وجه السرعة الى أبنه الذي كان ضمن جيش بكر آغا يطلب فيها منه قتل بكر الصوباشي،
لكن لسوء حظه وقعت الرسالة بيد الصوباشي الذي عاد الى بغداد مسرعاً وعبر دجلة تحت قصف النيران من القلعة المطلة على النهر التي يتحصن فيها الوالي وحاصرها وحدثت معركة بين الطرفين انتهت بانتصاره على الوالي وقتله وقتل أتباعه والكثير من حراسه وفرار قسم منهم الى البوادي، وكان من جملة القتلى مفتي بغداد والكثير من الأعيان والوجهاء. واستبيحت المدينة التي حصل فيها السلب والنهب وحالات القتل الكثيرة، ألقي القبض على محمد قنبر وابنية وخمسة من الاعيان، فقيدوهم بالسلاسل ووضعوهم في قارب مملوء بالكبريت والقار في نهر دجلة وأشعلوا النار بالقارب. بعد أن أستتب الأمر للصوباشي في بغداد رأى ان يكاتب إسطنبول فأرسل كتاباً الى السلطان مراد يخبره انه أنقذ بغداد من الفتنة والعنف وانه قتل الوالي الخائن، وطلب منه أن يعينه والياً على بغداد، وقبل أن يتلقى الجواب نشر بياناً مزوراً أعلن فيه أنه أصبح والياً، لكن السلطان رفض الطلب وأعتبره غاصباً للسلطة وعين والياً جديداً. أسمه سليمان باشا، فأرسل الوالي الجديد متسلمه ليتسلم الولاية حسب ما كان متبعاً آنذاك تمهيداً لقدومه اليها، رفض بكر صوباشي الأمر وأعلن تمرده على أوامر الباب العالي ولم يتورع عن قتل المتسلم، جهز سليمان باشا الوالي المعين لولاية بغداد، جيشاً وسار على رأسه نحو بغداد، غير انه لم يقترب منها حيث عسكر لعدة أشهر في بعقوبة، ثم أخذ عساكر الوالي يهاجمون القرى وينهبونها، أما بكر صوباشي فقد جهز جيشاً قوامه ثمانية آلاف رجل بقيادة الكتخدا عمر آغا الذي عبر نهر ديالى وتقابل مع جيش الوالي وبعد قتال شديد استطاع ان يلحق به الهزيمة وعندما حل الظلام هرب سليمان باشا ومن تبقى من رجاله.
الأمر الذي أثار غضب السلطان فأصدر أمره الى والي ديار بكر حافظ احمد ووالي شهرزور ومرعش وبعض المناطق المحاذية للعراق لإعداد جيش لغزو بغداد والقضاء على بكر الصوباشي، فاجتمعت قوة كبير بلغ تعدادها عشرين الف مقاتل في الموصل بانتظار المدد من ولايات أخرى، ثم توجه حافظ باشا على رأس الحملة العسكرية قاصداً بغداد، وعند وصول الجيش مشارف المدينة فرض عليها الحصار، ثم أُستُدرج الصوباشي للخروج خارج أسوار المدينة، ودارت معركة بين الطرفين استمرت يوماً وليلة اضطر بكر على أثرها الانسحاب والعودة إلى داخل الأسوار بعد ان ترك خلفه أعداداً كثيرة من القتلى والأسرى. ضاق الحصار على بغداد وأهلها وخلت الأسواق والبيوت من الطعام، كان للحصار أثره الواضح على المدينة التي بدأت تعاني من المجاعة وبدأ التعب يظهر على المدافعين عنها، وأصبح هلاكهم قاب قوسين أو أدنى وهو ما حدا ببكر الصوباشي ان يبعث إلى الزعيم الصفوي الشاه عباس بواسطة حاكم لرستان حسين خان مفاتيح بغداد وطلب منه ان يمده بالجند لينقذ بغداد من حافظ باشا وجيشه، مقابل ان يكون له الحكم والخطبة وسك النقود باسم الشاه، وكان الشاه يرقب التطورات ويتحين الفرص لاحتلال بغداد اذ كانت الاستعدادات قد اتخذت قبل مدة فالحدود الشرقية كانت تشهد كل يوم حشود من القوات الصفوية، وكان طلب الصوباشي الفرصة الذهبية للشاه الصفوي. فقبل الشاه بذلك وأرسل لنجدته جيشاً مؤلفاً من عشرة الاف مقاتل، حاول الصوباشي اللعب على الطرفين فأرسل الى القائد العثماني يخبره بتقدم الشاه عباس الصفوي باتجاه بغداد وانه مستعد للدفاع عن المدينة مع الجيش العثماني إن تم تنصيبه والياً عليها، لكن الأوامر جاءت بتعينه والياً على الرقة، فغضب وثار وأراد ان يقتل الرسل لولا نصائح بعض أعوانه، وهنا لجأ حافظ باشا الى تدبير آخر لقلب الامر ضد ما يهدف اليه الشاه فعرض على بكر الصوباشي الصلح وتنصيبه والياً على بغداد مقابل ان يتنصل من اتفاقه مع الشاه ويمنع جيشه من دخول بغداد، ثم انسحبت القوة العثمانية الى الموصل تاركين بكر الصوباشي يواجه مصيره ويلقى عاقبة ما صنعت يداه، وعند وصول الجيش الصفوي إلى مشارف بغداد استقبلتهم رسل الصوباشي بمقترح أن يتحمل هو كل النفقات المالية للحملة مقابل رجوع الجيش من حيث أتى، وكتب للشاه يعلمه بالصلح مع القائد العثماني، وشكره على ارساله الجيش لنجدته واستعطافه بأن يعطي أمراً بسحب هذا الجيش واعادته من حيث أتى، فغضب الشاه وشعر ان فرصة احتلال بغداد قد تضيع منه، وكان جيشه في خانقين عندما وصله الخبر فقدم بنفسه وزحف على بغداد وحاصرها من كل جانب لمدة ثلاثة أشهر كان بكر آغا وجيشه يدافع عنها، طال الحصار وبلغ القحط ببغداد ذروته، وانتشرت المجاعة فيها وبدأ اتباع الصوباشي وأهله يهربون الى معسكر الشاه للنجاة بأنفسهم أما الشاه الذي شعر بأن الحصار قد طال وهو بعيداً عن بلاده فلجأ الى الحيلة والبحث عن سبيل آخر يدخل منه الى المدينة المحاصرة والمنكوبة، فكان الحل هو البحث عن خائن فوجد ذلك في محمد أغا أبن بكر الصوباشي وكان القائد المسؤول عن قلعة بغداد وحاميتها العسكرية والذي سبق ان بعث برسائل الى الشاه حول فتح أبواب بغداد مقابل منصب كبير فأغراه بالوعود، فما كان من الأبن إلا خيانة ابيه وقام بفتح باب السر في القلعة الذي كان بجانب نهر دجلة ليلاً لجنود الشاه فدخلوا وما أن اشرقت الشمس على مآذن بغداد حتى دخلها الشاه دون أي مقاومة في 21 تشرين الثاني 1623م، قُبض على بكر الصوباشي وأحضر أمام الشاه مكبلاً وكانت المفاجئة عندما شاهد ابنه جالساً الى جانب الشاه الذي طلب منه ان يدلهم على مكان أمواله، رفض بكر ان يدلهم فأمر الشاه بمنعه من النوم لمدة سبعة أيام وكيه بالنار الى ان اشتوى لحمه وكان الابن يراقب ابيه المتألم دون ان يحرك ساكناً.. وبعد ان بين جميع أمواله أمر الشاه ان يوضع في قارب ويصب في أطرافه النفط والقطران ويشعل بالنار. لم يحصل الأبن الخائن على ثمن خيانته فقد قتل هو وعمه المدعو عمر وعدد كبير من أنصار بكر، وهكذا أنتهى حكم بكر صوباشي على يد أبنه وجيش الشاه والذي لم يستغرق سوى عدة أشهر فقط وكانت حركته هذه من أكثر الحركات التي جلبت الويلات والخراب على أهل العراق، والتي كانت نتيجة للطمع بالسلطة والدخول في لعبة كان فيها لاعب صغير بين لاعبين كبار لم يدرك خطورة دخوله فيها، غادر الشاه بغداد بعد ان ترك عليها حامية بقيادة صفي قلي وولى عليها رجل من خاصته أسمه صاري خان ، واستمر حكم الصفويين لبغداد خمسة عشر عاماً حيث تمكن السلطان مراد الرابع إعادة سيطرة الدولة العثمانية على بغداد مرة أخرى في عام 1638م.