هكذا يصنع العود العراقي
لا يبدو العثور على زقاق "جديد حسن باشا" الذي تنتشر على جانبيه ورش صناعة العود سهلا، فالمكان مغلق بحاجز إسمنتي صغير يحجب ما وراءه من أمطار متجمعة جعلت دخول الزقاق صعبا حتى على أصحاب الورش ذاتهم.
الزقاق الضيق الذي يحمل بين طياته رائحة التراث وتتعانق على جانبيه بيوت بغدادية قديمة تهالك بعضها وسقطت أجزاء منها تمتزج فيه أصوات مختلفة بعضها لأصحاب الورش وهم يجربون العزف على آلة عود أنهوا صنعها للتو وبعضها الآخر لهواة يحاولون تعلم العزف بإشراف صانعي العود، في حين يتزاحم آخرون على ورشة بعينها طلبا لإصلاح آلاتهم.
سنان سمير يحاول إصلاح آلة العود التي جلبها أحد الزبائن(الجزيرة)
ورشة الأنغام
في الجانب الأيسر عند بداية الزقاق انشغل سنان سمير صاحب ورشة "الأنغام" بتفحص آلة العود التي جلبها أنمار البلداوي، وهو شاب يواظب على تعلم العزف على آلة العود منذ خمس سنوات.
تبادل صاحب الورشة أطراف الحديث مع الشاب العازف الذي طلب منه تبديل أوتار العود ثم قال "لقد استهلكت الأوتار، إذ اشتريت العود منذ خمس سنوات".
كان سمير رشيد والد سنان أحد أشهر صناع آلة العود، إذ صنعها لفنانين كبار، منهم كاظم الساهر ونبيل شعيل ومحمد عبده وغيرهم، وكانت ورشته بجانب مبنى الإذاعة والتلفزيون قبل أن ينتقل إلى حسن باشا ويكمل ابنه مشواره في العمل.
بدأ سنان بإصلاح العود بحرفية عالية، في حين جلس أحد هواة العزف بجانبه محاولا أن يخرج بنغمات صحيحة على الآلة التي اشتراها وبدأ بتعلمها منذ شهر مضى.
يقول سنان إنه تعلم المهنة منذ كان طفلا، وهو لا يجيد غيرها ولم يعمل في أي مجال آخر على الرغم من أن بعض أصحاب الورش اتجهوا في سنوات التدهور الأمني في بغداد إلى مزاولة أعمال أخرى كي يتمكنوا من توفير لقمة العيش.
"لم يكن أحد يجرؤ على حمل آلة العود بيده في الشارع قبل عشرة أعوام، أما اليوم فإن الذين يتعلمون العزف على العود في تزايد مستمر، بعضهم من الشباب الموهوبين، وآخرون متقاعدون يشغلون أوقاتهم بتعلم الموسيقى أو هواة تجاوزوا الخمسين ولم تسنح لهم الظروف ليتعلموها في سني شبابهم".
ينقسم العود بشكل عام إلى "شرقي" و"سحب"، إذ يتزايد الإقبال على عود السحب بشكل كبير لمرونته فضلا عن سهولة العزف المنفرد عليه، أما العود الشرقي الطربي كما يسميه أصحاب الصنعة الذي عزفت عليه أنغام أم كلثوم وعبد الوهاب فالطلب عليه أقل بكثير.
ويسرد جليل رحيمة عازف العود المعروف وصاحب إحدى الورش مراحل صناعة الآلة الطربية باهتمام وهو يؤشر على كل جزء من أجزائه بدقة وكأنه يصف معشوقته الأبدية.
جليل رحيمة صنع أول آلة عود من صفائح الزيت(الجزيرة)
صناعة العود
يقول رحيمة إن أول شيء يصنع في العود هو "الطاسة"، ثم "وجه العود" الذي يغلق تقعر الطاسة، بعدها يتم تركيب "الجسور"، يليها صنع "الزند" الذي تتحرك عليه أصابع العازف وتركيب "القول" وهو الجزء الذي يحمل الأوتار، في حين يفصل بينه وبين الزند جزء صغير لكنه مهم وركن أساسي من أركان فيزيائية العود يدعى "المخدة" التي تؤثر على العزف، بعد ذلك يثقب القول وتركب عليه المفاتيح التي تحمل الأوتار.
رحيمة صنع أول عود في حياته قبل ثلاثين عاما حينما كان يافعا وكانت مواده الأساسية علب الزيت الفارغة، وأوتاره من بقايا خيوط أشرطة الكاسيت.
هناك قياسات خاصة يجب مراعاتها عند صناعة العود بحسب رحيمة، فعلى سبيل المثال فإن المسافة بين "الغزالة" التي تربط عليها الأوتار وبين المخدة -وهي الجزء الأخير من العود- هي ستون سنتيمترا تنقسم إلى ثلاث مسافات متساوية، لكن هذه القياسات تتفاوت بحسب رغبة العازفين الذين يطلبون صناعة العود بمواصفات خاصة، مثل عود ذي صوت حاد أو ما يسمى "سبرانو".
تناول رحيمة عودا بمواصفات خاصة صنعه زميله سنان للعازف العراقي نصير شمة وعلقه على الجدار بعدما لفه جيدا وبدأ بتجربته والعزف عليه لإيضاح الفرق بينه وبين الأنواع الأخرى، ثم قال بعدما أنهى مقطوعته "في السابق كان الطلب على العود الذي يصنع بغزالة ثابتة أو ما نسميه الشرقي، أما اليوم فالطلب على عود الغزالة المتحركة بات أكثر لمرونته".
ولا يقتصر تعلم العود اليوم على المتعلمين أو الشباب فحسب فالجميع يتساوون حينما يتعلق الأمر بحب النغم، ويقول شاكر اللامي الذي كان يتمرن على العزف إنه وجد في العود راحة نفسية فقرر أن يتعلم العزف وبدأ يتمرن منذ شهر تقريبا.
شاكر اللامي وجد في العود راحة نفسية (الجزيرة)
صعوبات جمة
الإقبال المتزايد على آلة العود في بغداد لا يخفي وجود صعوبات توجه صانعيه، أهمها صعوبة الحصول على الخشب المستخدم في صناعة العود، ولا سيما السيسم الهندي، وهو من أجود الأنواع المستخدمة في صناعة الآلة الموسيقية، فضلا عن انقراض الصناعة المحلية للأوتار واعتماد الورش على الأوتار المستوردة من تركيا وألمانيا.
وتنتشر صناعة العود في مناطق عدة ببغداد، أهمها زقاق حسن باشا في شارع الرشيد والصالحية والطوبجي وراغبة خاتون، في حين تنتشر محال البيع في مناطق متفرقة أخرى مثل الكرادة والعلاوي.
قرب زقاق حسن باشا من القشلة وشارع المتنبي جعل عزف العود أمرا مألوفا وجلب الكثيرون من الزبائن لصناع الآلة، إذ يتجمع الهواة في كل جمعة في إحدى زوايا القشلة ويستمعون إلى أحدهم وهو يعزف.
ويقول جمال خليل علي -وهو رجل ستيني يعمل أستاذا للغة الإنجليزية- إنه يعزف كلما سنحت له الفرصة ويشارك أصدقاءه من الهواة في جلساتهم، كما أن عائلته تتذوق الموسيقى، وهو ما يتيح له الاستمرار.
المصدر : الجزيرة