ما الذي يحدد مصير الواحد منا ؟ هل هو استعداده الوراثي وما يولد به من جينات والأمر منتهِ ؟ هل الإنسان وليد بيئته وظروفه فقط؟ أم أن هناك حلقة مفقودة تفسر الأمر، هذا ما سنكتشفه في هذا المقال.
هل أنت نتاج ما ورثته عن أبويك ؟
“Your genes are not your fate” “جيناتك ليست مصيرك”.
هكذا افتتح Dean Ornish (مؤسس معهد أبحاث الطب الوقائي بكاليفورنيا) محاضرته على TED والتي وضح فيها كيف أن اتباع العادات الصحية يفوق في أهميته عامل الوراثة والجينات وشرح كيف أن حتى الأمور التي كنا نظنها مستحيلة التغيير؛ كعدد الخلايا العصبية بالمخ مثلًا اُثبت بالأبحاث أنه باتباع نظام حياة صحي تتكون خلايا عصبية جديدة داخل المخ بل ويزداد حجمه أيضًا.
وفي دراسة استهدفت ذوي الأعمار الطويلة ممن تعدت أعمارهم التسعين عامًا، وجد الباحثون أن طول عمر الإنسان يتأثر بنظام حياته بشكل أكبر مما يتأثر بجيناته؛ فممارسة الرياضة بانتظام والنوم لفترات كافية والتغذية السليمة والتعامل الصحيح مع ضغوط الحياة كلها أسباب مهمة لنعيش أعمارًا أطول وهي لا تتعلق بجينات الفرد بقدر ما تتعلق بعاداته وروتينه.
فإذا كان استعدادك الوراثي يمثل عاملًا لا يُمكن التحكم فيه، فما تمارسه من عادات صحية يمثل عاملًا لا يقل أهمية بل ويزيد أثره عن الاستعداد الوراثي ويمكنك التحكم فيه بشكل كامل.
ليست فقط الصحة البدنية بل أيضًا القدرات العقلية
ساد لمدة طويلة الاعتقاد بأن الإنسان يولد بقدرات عقلية وإدراكية معينة تتحدد بالجينات التي ورثها عن والديه ولا يستطيع اكتساب أي مستوي أعلى من تلك القدرات فالأمر محدد مسبقًا ولا نستطيع الوصول إلى أعلى من ذلك، ولكن بعد عقود من الأبحاث والدارسة، توصل الباحثون إلى إن الإنسان لا يولد فائق أو محدود القدرات؛ بل هناك طفل ينشأ في بيئة داعمة ومحفزة لقدراته أو طفل حُرم من تلك البيئة.
فالصفات التي ظلت لفترة طويلة يُعتقد أنها غير قابلة للتغيير وأنها محددة سابقًا بالاستعداد الوراثي كالذكاء مثلًا وجد أنها تتغير بفعل البيئة التي ينشأ بها الطفل والمؤثرات التي يتعرض لها، فإذا كان الاستعداد الوراثي له دور في تحديد ما نصل إليه من قدرات فهو ليس العامل الوحيد بل كثيرًا ما يفوق عامل التنشئة وما يتعرض له الطفل من خبرات ومحفزات عامل الوراثة.
وكثيرًا ما رأينا من نبغوا في مجالات معينة وكانوا هم أول من دخلوا هذا المجال من عائلاتهم.
إذًا فالإنسان وليد بيئته فقط وما تعرض له في طفولته ؟
بالرغم من أهمية خبرات الطفولة في تحديد ما يصل إليه الإنسان عندما يكبر إلا أنها ليست العامل النهائي؛ فهناك العديد من النماذج التي استطاعت التعامل مع الخبرات السيئة التي تعرضت لها في الصغر وتخطيها لاستمرار حياتها بل واستطاعت أن تجنب أطفالها تلك الخبرات السيئة واحسنوا التعامل معهم وكسروا تلك الدائرة من الإساءات، وهذا بالطبع ليس مبررًا للآباء الذين يسيئون معاملة أبنائهم أو محاولة لتخفيف أثر ذلك العامل بقدر ما هو محاولة لاكتشاف ما إذا كان هناك طرف آخر في هذه المعادلة.
فقد رأينا التوائم والذي ينشأون بنفس البيت، يتربون نفس التربية مع نفس المربين، يعيشون في نفس مستوي المعيشة بل ويذهبون إلى نفس المدرسة، ومع ذلك كل منهما شخص مختلف عن الآخر وليس بالضرورة أن يحققوا نفس النتائج رغم اتحادهما في عاملي الوراثة والتنشئة معًا، فأين القطعة الناقصة من تلك الأحجية؟
هل هناك حلقة مفقودة ؟
في كتابها The How of Happiness شرحت Sonja Lyubomirsky الباحثة بعلم النفس بجامعة كاليفورنيا أن الاستعداد الوراثي يساهم في 50% من احتمالية سعادة الفرد ويمثل أثر الظروف المحيطة 10% إذن يظل في أيدينا 40% من الاحتمالية تتعلق بما يفعله الإنسان في حياته وردود أفعاله على ما يحدث حوله، وبما أنه يمكن في كثير من الأحيان تغيير بعض الظروف المحيطة إذًا العامل الأكبر يقع في نطاق تأثيرنا، وعلّقت Sonja أنه إذا أردت أن تصل للسعادة يجب أن تتبع مجموعة من العادات؛ هذه العادات إذا مارستها بانتظام تؤدي إلي تحقيق السعادة على المدى البعيد.
“نحن ما نفعله بشكل متكرر فالتميز عادة وليس فعلًا”
روت بعض المصادر هذا القول المأثور عن أرسطو، والذي يعني بأن الإنسان ليس فقط مجموعة المواهب التي خلقها الله بها أو ما تعرض له في صغره من تجارب، وإنما دائمًا يستطيع بالتعلم والممارسة أن يكتسب ما لم يكن لديه وأن يتقن ما لم يعرفه من قبل، كلمة السر دائمًا وأبدًا ما تكون الممارسة أو كما يقولون “Practice makes perfect”.
وتوضح الكاتبة Gretchen Rubin صاحبة الكتب الأكثر مبيعًا في كتابها Better than Before أننا نكرر 40% من سلوكياتنا بشكل يومي لذا فما نقوم به من عادات يشكل حاضرنا ومستقبلنا، فإذا غيّرنا ما نقوم به من عادات نُغيّر بالتبعية ما نعيشه الآن وما نصل إليه مستقبلًا، فالعادات التي تقوم بها بانتظام هي التي تحدد ماهية ما تصل إليه من نتائج في نهاية المطاف.
يبقى السؤال كيف تتكون العادات؟ وهل يمكن أن أغير عاداتي اليومية للأفضل؟ نجيب عن هذا السؤال في المقال القادم.
إسراء طارق بدر - اراجيك