TODAY - 04 October, 2010
الهروب الى العدو
كتابات - فيصل الياسري
لي صاحب ، شاعر ، واستاذ جامعي ، افكاره عصرية ، متحضر هو وعائلته ، زوجته وابنه وابنته يحملون شهادات جامعية ، لا احد فيهم متزمت دينيا ، كانوا في بيتهم ببغداد يقيمون بين حين وآخر سهرات اسرية لبعض الاصدقاء ، عامرة بالطعام والشراب والطرب !!
صاحبي هذا ترك العراق عام 2004 لانه لا يطيق رؤية الامريكان ، ولا يحتمل وجودهم ، هاجر مع اسرته – التي تشاطره المشاعر السياسية - الى اول محطة متاحة لهم : عمان ... حيث استقر استقرارا مريحا ، منزل مناسب ووظيفة في احدى الجامعات الاردنية ، وعمل استشاري لزوجته ، ووظيفة لابنه في مؤسسة تجارية ووظيفة لابنته في مركز للكمبيوتر ، بل ان هذه الابنة حصلت على زوج مناسب جدا ومهذب ...
كنت ازور صاحبي هذا بين حين واخر ، في منزله في عمان ، ونجلس في الصالون ، تضللنا صور كبيرة معلقة لصدام حسين ، خمسة من تلك الصور معلقة جنب بعضها البعض ، كل منها في زي مختلف وموقف مختلف ، وعلى شاشة كمبيوترهم صورة " للريس " يتحدث بالتلفون ، وعلى باب الثلاجة ملصقة ثلاث صور صغيره " للريس " واولاده " المرحومين " ...
وكان يتخلل جلستنا بين حين وآخر ان تأتينا من الحجرة المجاورة اغنية "منصورة يا بغداد .." او " .. يا كاع .." ... المهم كان المكان مفعما بجو من "الوطنية الخاصة جدا " .. والاخلاص لما مضى ، والادانة لكل ما هو قائم تحت شعار " الاحتلال باطل وكل ما بني على باطل فهو باطل .. ! " وكان يرافق كل ذلك اجترار لجمل جاهزة ، لا يملون من تكرارها برفض العدو الغازي ، ولن يهدأ بالهم الا بتحرير الوطن من العدو " القبيح " .. حيث كانت الزوجة بالذات تصر بمناسبة وغير مناسبة على استعمال هذا الوصف : القبيح !!
عظيم ، هذه قناعاتهم ، ومن حقهم جدا ، وليأخذوا راحتهم ، فنحن في بيتهم ، ولكننا بصراحة مللنا من هذه " الاسطوانة " وكلما حاولنا تغيرها في احاديث عامة وطريفة ، وذكريات عن بغداد والعراق ، كانوا يعودون الى موضوعهم المفضل ، التحسر على الماضي الجميل والادانة والرفض المطلق للعدو القبيح ... الذي لا يستطيعون رؤوته .. ولا يطيقون سماع صوته ... ولا يريدون سماع اخباره .. ولا مشاهدة افلامه .. ومسلسلاته ... ويتفاخرون بهذا الموقف ... عظيم ... موقف صلب .. وصامد ...!!
وهكذا اصبحت زيارتنا لهم مملة ، فتباعد الزمن بين زيارة واخرى , الى ان جاء عيد رمضان ، فوجدنا من الواجب الاجتماعي ان نزورهم ، فاخذنا علبة حلويات وتوجهنا الى منزلهم القريب منا ... قرعنا الجرس ، فلم يجب احد ، ثانية .. وثالثة ... لا احد .! وفتح باب الجيران واطل شخص ليخبرنا ان الجماعة تركوا هذه الشقة منذ ثلاثة اشهر وليست لديه معلومات الى اين ، ولكن يعتقد انهم هاجروا .. جميعا ؟ ... جميعا !
في السيارة ، اقترحت علي زوجتي ان نتصل بصديق مشترك ربما يعرف عن الجماعة شيئا ، وهذا ما حدث ... فما ان سألته عنهم ، حتى استغرب اننا لا نعرف شيئا ، ونجهل انهم منذ سنة يسعون الى الهجرة ، الى اين ؟ الى بلاد العدو بالذات ..امريكا العدو القبيح الذي يكرهونه ... وهم الان في نبراسكا بالذات !! في احضان العدو .. يعيشون حياته ، ويسمعون اخباره ، ويشاهدون افلامه ومسلسلاته ، ويسعون لاتقان لغته ، ويطيعون قوانينه وتحذيراته ، ويستمعون الى توجيهات بوليسه ، ويراجعون دوائره للحصول على اوراقهم الثبوتية واقامتهم ، وينتظرون معونته المالية ، ويقفون بالطوابير للحصول على فرصة عمل ، وسيدفعون الضرائب ‘ فيساهمون في تمويل العدو القبيح الذي هربوا منه في بغداد ... وربما سيصبح يوما ما احد ابنائهم اواحفادهم عسكريا " قبيحا " يؤسس "الديمقراطية" في بلد ما !!