قراءة في اعمال الفنان عبد الحليم ياسر
د-اروى عيسى الياسري
كربلاء.. تلك المدينة التي تتلألأ في سماءها قباب ومنائر ذهبية ، تتوهج صباحا مع انسياب اشعة الشمس على جنباتها لتزيدها اشراقا والقا .. ومساءا تستمد الاضواء الليلية من قدسية بهائها جمالها، فتجدها سابحة من الصباح الى المساء في بحر من الانوار.. ازقتها الضيقة ومنازلها المتلاصقة . وزحامها الذي لا ينتهي وحشود الزائرين على مدى العام .. عمقها التاريخي وتراثها الديني وذكرها الذي يورث عِبرة وعَبرة ...منحتها تفردا على خارطة العراق.. مدينة فيها وبها تختزل تاريخ وعشق بلد بأكمله.. من تراثها وعمقها التاريخي وبعدها الديني ومكانتها المعنوية والعاطفية التي تغلغت في روح الفنان التشكيلي عبد الحليم ياسر نتوقف امام مجموعة من اللوحات التي نفذها باستخدام اقلام الروترنج Rotring والاحبار الجافة الملونة موظفا من خلالها هذه المكانة التي تفردت بها كربلاء .
توحدت عناصر هذه اللوحات في كتلة رائعة وشكلت هذه العناصر عاملا مشتركا يجمع بينها.. من هذه العناصر نبدأ بالنسق المعماري للمدينة حيت البيوت المتلاصقة والشناشيل والشبابيك ذات الطراز العربي الاسلامي.. ولا تختلف مدن العراق العريقة في نمط العمارة هذا ، ما يختلف هنا تلك القباب والمنائر والاهلة التي تمنح هذه المدينة عنوانها والتي حشدها الفنان عبد الحليم ياسر معا ليجعلها تتداخل مع بعضها وتندمج في تراكم وتزاحم تنتصب تارة في وسط اللوحة وتارة اخرى نجدها تميل الى اليسار اوالى اليمين ولهذه الانحرافات مدلولاتها الرمزية التي توحي بحالة من عدم الاستقرار والقلق الذي كان حاضرا بتكوينات حروف كلمته في احد اللوحات ،لكن الذي خفف من حدة هذا القلق وجود لفظ الجلالة في اعلى لوحة او كلمة الله اكبر على يسار لوحة اخرى او ايات قرآنية توشحت بها لوحة ثالثة ..وقد اضافت هذه الكتابات والحروف العربية الى اللوحات قيمة جمالية مضاعفة وجاءت مكملة ومتوازنة مع العناصر الاخرى التي عبرت عن مضمون تلك اللوحات .
arwa1_01ثم تأتي الاكف الممتدة المبتهلة تضرعا.. اكف نسائية او اكف رجالية لا فرق كلها تأمل وترجو ان تجد الخلاص من واقع مأساوي .. واكف اخرى كان لها حضورها وقدسيتها.. قطعت فداءا للاخوة والانتماء حتى صارت مزارا ومحجة .. رماح ورايات تروي قصة معركة دارت رحاها هنا فخلدت وصارت رمزا للتضحية من اجل قدسية المحبة ..والعدالة الأنسانية.. نسوة واطفال بعضهم مازال في احضان الامهات .. ساعات تاهت عن زمنها..رقعة شطرنج فقدت استقامتها والتوت على نفسها .. طيور يبدو الخوف عليها تترقب الاتي واخرى تهوي صريعة ..
اتخذ الانسان بغض النظر عن جنسه في هذه اللوحات من مركزها وبؤرتها مقرا له كاشفا عما يختلج في نفسه من مشاعر مختلفة ومتنوعة .. قلق.. او خوف.. او ترقب.. او رجاء .. او فرح .. او امل ..اذ يمتد شعاع نور من الافواه التي تلج بالدعاء منطلقا الى السماء ..
جاءت الالوان الرمادية التي استخدمها الفنان معبرة عن قتامة وكآبة واقع الحال المعاش لكنه أطرها باللون الابيض ليمنحنا فسحة من الامل وفرصة للحلم بسلام واستقرار نأمل الا يطول انتظارنا له ..
arwa2الفنان عبد الحليم ياسر فنان مثقف وواع ومدرك لتراث هذه المدينة العريقة وهذا البلد المبتلى ، صاغ مضمون لوحاته من افكاره ومواقفه الانسانية المتمثلة في استقراء ذلك الواقع وترجمتها الى شكل فني متناغم هارمونيا مع هذا المضمون .. قد يكون ميالا هنا الى استخدام الايحاء والرمز لكن من خلال اعماله في فن الكاريكتير اعتدنا عليه وهو يقدم افكاره واراءه بشكل مباشر وصريح ويتميز بالجرأة في التنبيه الى مواطن الخلل وبؤر الفساد التي تنخر في هذا البلد الذي تملكه حبه فوظف فنه من اجله.