في سنة 366هـ= 976م توفي الحكم المستنصر في الأندلس، وترك ابنه هشام المؤيد وليًا من بعده، ولكنه كان صغيرًا في السن وغير قادر على إدارة شؤون الدولة، وفي هذه اللحظة من تاريخ الأندلس كان في المشهد ثلاث شخصيات قوية: المصحفي حاجب الخليفة، ومحمد ابن أبي عامر مدير الشرطة، بالإضافة إلى فارس الأندلس الكبير وصاحب التاريخ الجهادي الزاهر غالب الناصري قائد الجيوش الأموية.
ومع توالي الأحداث تم عزل المصحفي وتولية محمد بن أبي عامر أمر الحجابة مكانه، ومن ثَمَّ تولى ابن أبي عامر أمر الوصاية على الخليفة الصغير هشام المؤيد، ثم استقرَّ الأمر لمحمد بن أبي عامر واتخذ لنفسه لقب الحاجب المنصور وأصبح الحاكم الفعلي لبلاد الأندلس، وصار إليه الأمر والنهي والتولية والعزل، وإخراج الجيوش للجهاد، وتوقيع المصالحات والمعاهدات، حتى عُرِفَ ذلك العهد بعهد الدولة العامرية.
توطَّدت العلاقة بين غالب الناصري قائد الجيوش ومحمد بن أبي عامر، إلى الحدِّ الذي جعل محمد بن أبي عامر يخطب ابنة غالب لنفسه فوافقه غالب على ذلك، واجتمع ابن أبي عامر مع صهره غالب، ونهضا معًا وفتحوا سويًا العديد من الحصون وغنموا وسبوا كثيرًا من الغنائم، إلاَّ أن هذه العلاقة الطيبة لم تدم طويلًا بين غالب وابن أبي عامر.. حيث ساء الجوُّ بينهما ووقع حادث خطير.
خرج المنصور إلى غزوة من غزواته في الصوائف إلى قشتالة، فدعاه غالب الناصري إلى وليمة وعزم عليه في حضورها، ولما ذهب ابن أبي عامر جرى بينهما نقاش واحتدَّ حتى «سبَّه غالب وقال له: يا كلب؛ أنت الذي أفسدت الدولة، وخربت القلاع، وتحكمت في الدولة. وسل سيفه فضربه»، ولولا أن أحد الحاضرين أعاق يده فانحرفت ضربة السيف لكانت الضربة قد قتلت ابن أبي عامر، ولكن أصابته بشجٍّ في رأسه.
ولحسن حظِّه استطاع ابن أبي عامر أن يُلقي بنفسه من فوق القلعة، وأن ينجو من هذا المأزق الخطير بما فيه من إصابات، ثم عاد إلى قُرْطُبَة، وقد استُعلنت بينهما العداوة.
جهز ابن أبي عامر جيشًا من قرطبة ثم سار به إلى ملاقاة غالب الناصري، وهنا وقع الفارس العظيم في خطأ قاتل، كان أسوأ خاتمة لحياة اتصلت ثمانين عامًا حافلة بالجهاد، لقد اتصل غالب الناصري براميرو الثالث ملك ليون، وطلب منه النجدة ضد جيش، فأمده راميرو بجزء من جنده.
ومن عجائب القدر التقى الجيشان؛ جيش قُرْطُبَة يقوده ابن أبي عامر في القلب وعلى الميمنة فارس المغرب جعفر بن حمدون، وعلى الميسرة الوزير أحمد بن حزم (والد الإمام الكبير ابن حزم) وغيره من الرؤساء، أمام جيش غالب الناصري ومعه جيش ليون.
ومع أن غالبًا الناصري كان قد بلغ الثمانين إلاَّ أنه هجم على الميمنة فغلبها ومزَّقها، ثم عاد وهجم على الميسرة فغلبها ومزَّقها، وما هو إلاَّ أن واجه القلب، وفيه ابن أبي عامر. وإنه من المثير حقًّا أن نشاهد هذا اللقاء بين الرجلين اللذين لم يُهزما حتى الآن، واللذين ستكون هزيمة أحدهما هي الأولى وربما الأخيرة في حياته، فيختم بها سجل تاريخه.
رفع غالب صوته قائلاً: «اللهم إن كنتُ أصلح للمسلمين من ابن أبي عامر فانصرني، وإن كان هو الأصلح لهم فانصره». ثم حدث أعجب ما يمكن أن يُتصور في هذا الموقف، لقد مشى غالب بفرسه إلى خارج الجيشين، فَظَنَّ الناس أنه يُريد الخلاء، ثم طال غيابه، فذهب بعض جنوده للبحث عنه فوجدوه ميتًا بلا أثر ولا ضربة ولا رمية، فعادوا بالبشرى إلى ابن أبي عامر.
وأراد الله أن يموت الرجلان ولم ينهزم أحدهما، ولعلَّه استجاب إلى دعاء غالب، فأبقى للمسلمين مَنْ هو أصلح لهم[1].
[1] دكتور راغب السرجاني: قصة الأندلس، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الأولى، 1432هـ=2011م، 1/ 263- 264.