قصة صهيب الرومي
صهيب الرومى ، ومن منا معشر المسلمين لا يعرف صهيباً الرومي ولا يلم بطرف من أخباره ونُتف من سيرته ، ولكن الذي لا يعرفه الكثير منا هو أن صهيباً لم يكن روميّاً وإنما كان عربيّاً خالصاً نميري (أى من بنى نمير) الأب وتميمي (بنى تميم) الأم ، ولانتساب صهيب إلى الروم قصة ماتزال تعيها ذاكرة التاريخ وترويها أسفاره .
فقبل البعثة بحوالي عقدين من الزمان كان يتولى الأبُلَّة (وهي مدينة قديمة دخلت في البصرة) سنان بن مالك النميري من قبل كسرى ملك الفرس وكان أحب أولاده إليه طفل لم يتجاوز الخامسة من عمره دعاه صهيباً ، وكان صهيب أزهر الوجه أحمر الشعر متدفق النشاط ذا عينين تتَّقدان فطنة ونجابة ، وكان إلى ذلك ممراحاً عذب الروح يُدخل السرور إلى قلب أبيه وينتزع منه هموم الملك انتزاعاً .
مضت أم صهيب مع ابنها الصغير وطائفة من حشمها وخدمها إلى قرية الثَّنيِّ من أرض العراق طلباً للراحة والاستجمام فأغارت على القرية سريّة من سرايا جيش الروم فقتلت حراسها ونهبت أموالها وأسرت ذراريها فكان في جملة من أسرتهم صهيب .
بيع صهيب في أسواق الرقيق ببلاد الروم ، وجعلت تتداوله الأيدي فينتقل من خدمة سيد إلى خدمة آخر ، شأنه في ذلك كشأن الآلآف المؤلفة من الأرقاء الذين كانوا يملأون قصور بلاد الروم وقد أتاح ذلك لصهيب أن ينفُذ إلى أعماق المجتمع الرومي وأن يقف عليه من داخله فرأى بعينه مايعشعش في قصوره من الرذائل والموبقات ، وسمع بأذنيه مايرتكب فيها من المظالم والمآثم فكره ذلك المجتمع وازدراه .
وكان يقول في نفسه : إن مجتمعاً كهذا لا يطهره إلا الطوفان وعلى الرغم من أن صهيباً قد نشأ في بلاد الروم وشبَّ على أرضها وبين أهلها ، وعلى الرغم من أنه نسي العروبة أو كاد ينساها ، فإنه لم يغب عن باله قط أنه عربي من أبناء الصحراء ، ولم تفتر أشواقه لحظة إلى اليوم الذي يتحرر فيه من عبوديته ويلحق ببني قومه .
وقد زاده حنيناً إلى بلاد العرب فوق حنينه ، أنه سمع كاهناً من كهنة النصارى يقول لسيد من أسياده :ل قد أطلَّ زمان يخرج فيه من مكة في جزيرة العرب نبي يصدق رسالة عيسى بن مريم ويخرج الناس من الظلمات إلى النور ، ثم أتيحت الفرصة لصهيب فولى هارباً من رق أسياده ، ويمَّم وجهه شطر مكة أم القرى وموئل العرب ومبعث النبي المرتقب .
ولما ألقى عصاه فيها (أي نزل فيها واستقر) أطلق الناس عليه اسم صهيب الرومي للكنة لسانه وحمرة شعره وقد حالف صهيب سيداً من سادات مكة هو عبدالله بن جدعان ، وطفق يعمل في التجارة فدرَّت عليه الخير الوفير والمال الكثير غير أن صهيباً لم تنسه تجارته ومكاسبه حديث الكاهن النصراني، فكان كلما مر كلامه بخاطره يُسائل نفسه في لهفة : متى يكون ذلك؟ .
وما هو إلا قليل حتى جاءه الجواب ، ففي ذات يوم عاد صهيب إلى مكة من إحدى رحلاته فقيل : له إن محمد بن عبدالله قد بعث وقام يدعو الناس إلى الايمان بالله وحده ويحضهم على العدل والإحسان وينهاهم عن الفحشاء والمنكر فقال : أليس هو الذي يلقبونه بالأمين؟ فقيل له : بلى فقال : وأين مكانه؟ فقيل له : في دار الأرقم بن أبي الأرقم عند الصفا .
ولكن حذار من أن يراك أحدٌ من قريش ، فإن رأوك فعلوا بك وفعلوا ، وأنت رجل غريب لا عصبية لك تحميك ولا عشيرة عندك تنصرك ، مضى صهيب إلى دار الأرقم حذِراً يتلفت ، فلما بلغها وجد عند الباب عمَّار بن ياسر وكان يعرفه من قبل ، فتردد لحظة ثم دنا منه وقال : ما تريد ياعمَّار؟ فقال عمار : بل ما تريد أنت؟ فقال صهيب : أردت أن أدخل على هذا الرجل فأسمع منه ما يقول ، فقال عمار : وأنا أريد ذلك ، فقال صهيب : إذن ندخل معاً على بركة الله .
دخل صهيب بن سنان الرومي وعمار بن ياسر على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعا إلى مايقول فأشرق نور الأيمان في صدريهما وتسابقا في مد أيديهما إليه ، وشهدا أن لاإله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، وأمضيا سحابة يومهما عنده ينهلان من هديه وينعمان بصحبته ، ولما أقبل الليل وهدأت الحركة خرجا من عنده تحت جنح الظلام ، وقد حمل كل منهما من النور في صدره مايكفي لإضاءة الدنيا بأسرها .
تحمل صهيب نصيبه من أذى قريش مع بلال وعمار وسميَّة وخباب وغيرهم من عشرات المؤمنين ، وقاسى من نكال قريش ما لو نزل بجبل لهدَّه ، فتلقى ذلك كله بنفس مطمئنة صابرة لأنه كان يعلم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره ولما أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة عزم صهيب على أن يمضي في صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، لكن قريشاً شعرت بعزمه على الهجرة فصدَّته عن غايته ، واقامت عليه الرقباء حتى لا يفلت من أيديهم ويحمل معه ما درَّته عليه التجارة من فضة وذهب .
ظل صهيب بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه يتحين الفرص للحاق بهما فلم يفلح إذ كانت أعين الرقباء ساهرة عليه متيقظة له فلم يجد سبيلاً غير اللجوء إلى الحيلة ففي ذات ليلة باردة أكثر صهيب من الخروج إلى الخلاء كأنه يقضي الحاجة فكان لا يرجع من قضاء حاجته حتى يعود إليها ، فقال بعض رقبائه لبعض : طيبوا نفساً ، فإن اللات والعزى شغلاه ببطنه ، ثم أووا إلى مضاجعهم وأسلموا عيونهم إلى الكرى ، فتسلل صهيب من بينهم ويمَّم وجهه شطر المدينة .
لم يمضِ غير قليل على رحيل صهيب حتى فطن له رقباؤه ، فهبوا من نومهم مذعورين وامتطوا خيولهم السوابق وأطلقوا أعنتها خلفه حتى أدركوه ، فلما أحس بهم وقف على مكانٍ عالٍ وأخرج سهامه من كنانته ووتر قوسه وقال : يا معشر قريش لقد علمتم والله أني من أرمى الناس وأحكمهم إصابة ، ووالله لا تصلون إلىَّ حتى أقتل بكل سهم معي رجلاً منكم ، ثم أضربكم بسيفي مابقي في يدي شيء منه .
فقال قائل منهم : واللهِ لا ندعك تفوز منا بنفسك وبمالك ، لقد أتيت مكة صعلوكاً فقيراً فاغتنيت وبلغت مابلغت ، فقال صهيب : أرأيتم إن تركت لكم مالي ، أتخلون سبيلي؟ قالوا : نعم ، فدلهم على موضع ماله في بيته في مكة ، فمضوا إليه وأخذوه منه ثم أطلقوا سراحه .
أخذ صهيب يُغِذُّ السير نحو المدينة فاراً بدينه إلى الله غير آسف على المال الذي أنفق في جَنيْهِ زهرة العمر ، وكان كلما أدركه الونى وأصابه التعب استفزه الشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعود إليه نشاطه ويواصل سيره ، فلما بلغ (قباء) رآه الرسول صلوات الله وسلامه عليه مقبلاً فهشَّ له وبشَّ وقال : (رَبحَ البيعُ يا أبا يحيى ، رَبحَ البيعُ) وكررها ثلاثاً .فعلت الفرحة وجه صهيب وقال : والله ماسبقني إليك أحدٌ يارسول الله ، وما أخبرك به إلا جبريل .
حقاً لقد ربح البيع، وصدَّق ذلك وحي السماء وشهد عليه جبريل ، حيث نزل في صهيب قول الله عز وجل : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) ، فطوبى لصهيب بن سنان الرومي وحسن مآب .