قَالَ أَبُو الحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ فَارِسٍ بْنِ زَكَرِيَّا، رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
إنّ اللهَ خلَقَ خَلْقَهُ، كَمَا شَاءَ ولِمَا شَاءَ إظْهَارًا وعَلَمًا لِلرُّبُوْبِيَّةِ، وَخلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وفَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ الخَلْقِ بِالبَيَانِ الَّذِي آتَاهُ، والنُّطْقِ الَّذِي علَّمَهُ إيَّاهُ، وأَنْشَأَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذُرِّيَّةً، واخْتَارَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ صَفْوَةً اصْطَفَاهُمْ لِلنُّبُوَّةِ وأَقَامَهُمْ لِتَبْلِيْغِ الرِّسَالةِ، وعَصَمَهُمْ مِنْ كُلِّ شَائِنَةٍ، ونَزَّهَهُمْ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ.
وكَانَ سَائِرُ البَشَرِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهُمُ السَّلَامُ أَخْيَافًا(2) ؛ فشَقِيٌّ وسَعِيْدٌ، وعَالِمٌ وجَاهِلٌ، ومُحِقٌّ ومُبْطِلٌ، ومُخْطِئٌ ومُصِيْبٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُوْرِ المـُتَضَادَّةِ، فلَوْ لَمْ يكُنْ جَهْلٌ لَمْ يُعْرَفْ عِلْمٌ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ خَطَأٌ لَمْ يُعْرَفْ صَوَابٌ، لأَنَّ الأَشْيَاءَ تُعْرَفُ بِأَضْدَادِهَا.
والَّذِي دَعَانَا إِلَى هَذِهِ المـُقَدِّمَةِ أَنَّ نَاسًا مِنْ قُدَمَاءِ الشُّعَرَاءِ ومَنْ بَعْدَهُم أَصَابُوا فِي أَكْثَرِ مَا نَظَمُوْهُ مِنْ شِعْرِهِمْ، وأَخْطَأُوْا فِي اليَسِيْرِ مِنْ ذَلِكَ؛ فجَعَلَ نَاسٌ مِنْ أهْلِ العَرَبِيَّةِ يُوَجِّهُوْنَ لِخَطَإِ الشُّعَرَاءِ وُجُوْهًا، ويَتَمَحَّلُوْنَ لِذَلِكَ تَأْوِيْلاتٍ؛ حَتَّى صَنَعُوا فِيْمَا ذَكَرْنَاهُ أبْوَابًا وصَنَّفُوا / 18 فِي ضَرُوْرَاتِ الشِّعْرِ كُتُبًا؛ فَقَالَ مِنَ العُلَمَاءِ بِالعَرَبِيَّةِ فِي بَابٍ تَرْجَمَهُ بِمَا يَحْتَمِلُ الشِّعْرُ:
اِعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوْزُ فِي الشِّعْرِ مَا لَا يَجُوْزُ فِي الكَلَامِ،... [وحَذْفِ مَا لَا يُحْذَفُ يُشَبِّهُوْنَهُ بِمَا قَدْ حُذِفَ(3)] واسْتُعْمِلَ مَحْذُوْفًا(4)، كَقَوْلِهِ:
1/ قَوَاطِنًا مَكَّةَ مِنْ وُرْقِ الحَمِي
يَعْنِي: أَنَّهُ أَرَادَ: الحَمَامَ؛ فحَذَفَ المـِيْمَ، وحَوَّلَ الأَلِفَ يَاءً.
وكَقَوْلِهِ:
2/ دَارٌ لِسَلْمَى(5) إذْهِ مِنْ هَوَاكا
وكَقَوْلِ الآخَرِ:
3/ نَفْيَ الدَّرَاهِيْمِ(6) تَنْقَادُ الصَّيَارِيْفِ(7) / 19
وكَقَوْلِ الآخَرِ:
4/ فَلَسْتُ بِآتِيْهِ ولَا أَسْتَطِيْعُهُ = وَلَاكِ اسْقِنِي؛ إِنْ كانَ مَاؤُكَ ذَا فَضْلِ(8)
وكَقَوْلِ الآخَرِ فِي إِبْرَازِ التّضْعِيْفِ:
5/ أَنِّي أَجُوْدُ(9) لِأَقْوَامٍ وإِنْ ضَنِنُوْا(10)
قَالَ: "ويَحْتَمِلُوْنَ قُبْحَ الكَلَامِ حَتَّى يَضَعُوْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقِيْمٌ لَيْسَ فِيْهِ نَقْصٌ(11)"
ويُنشِدُوْنَ: / 20
6/ صَدَدْتِ فأَطْوَلْتِ الصُّدُوْدَ وقَلَّمَا = وِصَالٌ عَلَى طُوْلِ الصُّدُوْدِ يَدُوْمُ
ويُنشِدُوْنَ:
7/ وصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤَثْفَيْنْ
قَالَ: "ولَيْسَ شَيْءٌ يُضْطَرُّوْنَ إِلَيْهِ إِلَّا وهُمْ يُحَاوِلُوْنَ لَهُ(12) وَجْهًا، ومَا يَجُوْزُ فِي الشِّعْرِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ أَذْكُرَهُ(13)" هذا كُلُّهُ قَوْلُ سِيْبَوَيْهِ.
قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَلَمْ يَكُنْ قَصْدِي لِذِكْرِهِ(14) إِفْرَادًا لَهُ فِي هَذَا البَابِ دُوْنَ سَائِرِ أَهْلِ العَرَبِيَّةِ مِنَ الكُوْفِيِّيْنَ والبَصْرِيِّيْنَ؛ لِأَنَّ كُلًّا أَوْ الأَكْثَرَ وَقَعُوْا فِي مِثْلِ ذَلِكَ: / 21
قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: فَيُقَالُ لِجَمَاعَتِهِمْ: مَا الوَجْهُ فِي إِجَازَةِ مَا لَا يَجُوْزُ إِذَا قَالَهُ شَاعِرٌ؟ ومَا الفَرْقُ بَيْنَ الشَّاعِرِ والخَطِيْبِ والكَاتِبِ؟ ولِمَ لا يَجُوْزُ لِوَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يَقُوْلَ لِآخَرَ: لَسْتُ أَقْصِدُكَ ولَاكِ اقْصِدْنِي أَنْتَ، وأَنْ يَقُوْلَ لِمَنْ يُخَاطِبُهُ : فَعَلْتُ هَذَا كَكَمَا فَعَلْتَ أَنْتَ كَذَا؟
فإِنْ قَالُوا: لِأَنَّ الشُّعَرَاءَ أُمَرَاءُ الكَلَامِ!
قِيْلَ: ولِمَ لَا يَكُوْنُ الخُطَبَاءُ أُمَرَاءَ الكَلَامِ(15)؟ وَهَبْنَا جَعَلْنَا الشُّعَرَاءَ أُمَرَاءَ الكَلَامِ، لِمَ أَجَزْنَا لِهَؤُلَاءِ الأُمَرَاءِ أَنْ يُخْطِئُوْا، ويَقُوْلُوْا مَالَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُمْ؟
فإِنْ قَالُوا: إنّ الشَّاعِرَ يُضْطَرُّ إِلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُرِيْدُ إقامةَ وَزْنِ شِعْرِهِ، ولو أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَقِمْ شِعْرُهُ، قِيْلَ لَهُمْ: ومَنْ اضْطَرَّهُ أنْ يقُوْلَ شِعْرًا لا يَسْتَقِيْمُ إِلَّا بِإِعْمَالِ الخَطَإِ؟ ونَحْنُ لَمْ نَرَ، ولَمْ نَسْمَعْ بِشَاعِرٍ اضْطَرَّهُ سُلْطَانٌ، أو ذُوْ سَطْوَةٍ بِسَوْطٍ، أوْ سَيْفٍ إِلَى أنْ يَقُوْلَ فِي شِعْرِهِ مَا لَا يَجُوْزُ، ومَا لَا تُجِيْزُوْنَهُ أَنْتُمْ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ.
فإِنْ قَالُوا: إنَّ الشّاعِرَ يَعِنُّ لَهُ مَعْنًى فَلَا يُمْكِنُهُ إِبْرَازُهُ إلَّا بِمِثْلِ اللّفْظِ القَبِيْحِ المـَعِيْبِ، قِيْلَ لَهُم: هذا اعْتِذَارٌ أَقْبَحُ وأَعْيَبُ؛ ومَا الَّذِي يَمْنَعُ الشَّاعِرَ إِذَا بَنَى خَمْسِينَ بَيْتًا عَلَى الصَّوَابِ أَنْ يَتَجَنَّبَ ذَلِكَ البَيْتَ المَعِيْبَ، ولَا يَكُوْنُ فِي تَجَنُّبِهِ ذَلِكَ مَا يُوْقِعُ ذَنْبًا أَوْ يُزْرِيْ بِمُرُوْءَةٍ؟
8/ ومَنْ الَّذِي اضْطَرَّ الفَرَزْدَقَ إِلَى قَوْلِهِ: / 22
وعَضُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوانَ لَمْ يَدَعْ = مِنَ المـَالِ إلاَّ مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّفُ
إِلَى أَنْ قَالَ:
9/ مِنْ قَتْلٍ وأما أَسْ(16)
ولَوْ أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا المَلْحُوْنِ المـَعِيْبِ؛ لَكَانَ أَحْرَى بِهِ؛ مَعَ قَوْلِهِ:
10/ تَرَى النّاسَ ما سِرْنا يَسِيرُونَ خَلْفَنا = وَإنْ نَحْنُ أَوْمَأْنَا إلى النَّاسِ وَقَّفُوْا(17)
ومَنْ ذَا الَّذِي اضْطَرَّ القَائِلَ إِلَى أَنْ يَقُوْلَ:
11/ كَأَنَّا يَوْمَ قُرَّى إِ = نَّمَا نَقْتُلُ إِيَّانَا(18) / 23
وَقَدْ أمْكَنَ أَنْ يَقُوْلَ: إِنَّمَا نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا فِي غَيْرِ هَذَا الوَزْنِ مِنَ الشِّعْرِ، إِذْ كَانَتْ أَوْزَانُ الشِّعْرِ وبُحُوْرُهُ كَثِيْرَةً.
ومَنْ ذَا الَّذِي اضْطَرَّ الآخَرَ إِلَى أَنْ يَقُوْلَ:
12/ ومِحْوَرٍ أُخْلِصَ مِنْ مَاءِ اليَلَبْ
حَتّى احْتَاجَ الـمُتَكَلِّفُوْنَ بَعْدَهُ إِلَى أَنْ يَتَأَوَّلُوْا لَهُ التَّأْوِيْلَ [مَعَ] بُعْدِهُ(19)؟
وأَيُّ خَطَإٍ أَقْبَحُ مِنْ قَوْلِ القَائِلِ فِي صِفَةِ دِرْعٍ:
13/ ... مُحْكَمَةٍ مِنْ صُنْعِ سَلاَّمِ
فإنَّهُ لَمْ يَرْضَ أَنْ جَعَلَ الصَّنْعَةَ لِسُلَيْمانَ وهِيَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ = حَتَّى جَعَلَ اسْمَهُ سَلَّامًا!!.
وهذا كَثِيْرٌ، ولَيْسَ الغَرَضُ إثباتَهُ لِكَثْرَتِهِ وشُهْرَتِهِ؛ لَكِنَّ الغَرَضَ الإِبَانَةُ عَنْ أَنَّ الشُّعَرَاءَ يُخْطِئُوْنَ كَمَا يُخْطِئُ النَّاسُ، ويَغْلَطُوْنَ كَمَا يَغْلَطُوْنَ.
وكُلُّ الَّذِي ذكَرَهُ النَّحْوُيِّوْنَ في إجَازةِ ذَلِكَ والاحْتِجَاجِ لَهُ جِنْسٌ مِنَ التَّكَلُّفِ، ولَوْ صَلَحَ ذَلِكَ لَصَلَحَ النّصْبُ مَوْضِعَ الخَفْضِ والـمَدُّ مَوْضِعَ القَصْرِ، كَمَا جَازَ عِنْدَهم القَصْرُ في الـمَمْدُوْدِ. / 24
فإِنْ قَالُوا: لا يَجُوْزُ مَدُّ المَقْصُوْرِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي البِنَاءِ، قِيْلَ: لا يَجُوْزُ قَصْرُ المَمْدُودِ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ في البِنَاءِ، ولَا فَرْقَ(20).
وهَذَا آخِرُ مَا أَرَدْنَاهُ فِي ذَا المـَعْنَى، واليَسِيْرُ مِنْهُ دَالٌّ عَلَى مَا وَرَاءَهُ، وبِاللهِ التَّوْفِيْقُ إِلَى الصَّوَابِ.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.
تَمَّ، والحَمْدُ للهِ علَى ذَلِكَ.
الحواشي:
1. أرقام صفحات رسالة ذمّ الخطإ في الشعر - بتحقيق د رمضان عبد التواب.
2. "والأَخْيافُ الضُّروبُ المختلفة في الأَخْلاق والأَشْكالِ. والأَخْيافُ من الناس: الذين أُمُّهم واحدة وآباؤهم شَتى. يقال: الناسُ أَخْيافٌ أَي لا يَسْتَوُون، ويقال ذلك في الإخوة، يقال: إخوةٌ أَخيافٌ. والأَخْيافُ اختلاف الآباء وأَمهم واحدة، ومنه قيل: الناسُ أَخياف أَي مختلفون، وخَيَّفَتِ المرأَةُ أَولادَها: جاءت بهم مختلفين" اللسان: خيف.
3. تكملة لا بُدَّ منها، ولعلها سقطٌ في الأصل، ولم يثبتها د رمضان عبد التواب. وأمّا إسقاط ما قبلها فلعله مقصود عند المؤلف.
4. انتقى ابن فارس من نص سيبويه بعض النصوص عن الضرورات التي لم يظهر له ورودها في القرآن والنثر. ولعله ترك ضرورات أخر لاستعمالها في غير الشعر، فلا يعدّها من الضرورات مثل صَرْفِ غير المصروف.
5. في الكتاب وغيره: لِسُعْدَى
6. في الكتاب: الدّنانيْر.
7. ورد البيت كاملًا في الكتاب، وسيأتي الحديث عنه، في دراسة الشواهد اللاحقة:
8. هذا البيت سابق لبيت الفرزدق في الكتاب، وبينهما شاهدان آخران.
9. في تحقيق رمضان: أحود (بالحاء)، خطأ طباعة.
10. ورد البيت تامًّا في الكتاب، وسيأتي حديث عنه.
11. الذي في الكتاب (نقض) بالضاد المعجمة، وبالمعجمة هي الراجحة عندي حسب السياق.
12. في الكتاب: به.
13. نصّ كلام سيبويه: "وما يَجُوْزُ في الشِّعْرِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ أَذْكُرَهُ لَكَ هَهُنَا؛ لأَنَّ هذا مَوْضِعُ جُمَلٍ وسَنُبَيِّنُ ذلك فيما نَسْتَقْبِلُ إنْ شاءَ اللهُ".
14. يعني ذِكره سيبويه.
15. أقرّ ابن فارس في الصاحبيّ إمارتهم قائلًا ص 468: "والشُّعراءُ أُمَراءُ الكَلامِ، يَقصُرُون المَمْدُودَ، ولا يَمُدُّون المقصُورَ، ويُقَدِّمُونَ ويُؤَخِّرُونَ، ويُومِئُونَ ويُشِيْرُونَ، ويَخْتَلِسُونَ ويُعِيْرُونَ ويَسْتَعِيْرُونَ. فأمّا لحنٌ فِي إعرابٍ أَوْ إزالةُ كلمةٍ عن نَهْجِ صواب، فليس لهم ذَلِكَ".
16. بحثتُ عنه فلم أجده، وقد قال د رمضان في الحاشية: هذا ما في المخطوطتين، وأما المطبوعة ففيها: "وما أسر"، ولم أعثر على البيت المطلوب في شعر الفرزدق ولا في ما رأيت من المصادر ..!" انتهى كلامه.
17. ليس فيه ضرورة، وأورده ابن فارس تثريبًا على الفرزدق الذي يفاخر بتبعية الناس له؛ ثم هو يخطئُ في لغته، وهو القدوة.
18. من شواهد الكتاب، وسيأتي البحث فيه.
19. مكررة، وربما كانت كلمة أخرى لم تتبين للمحقّق، وقد زدت كلمة (مع) لعله يستقيم بها النص، ليكون المقصود: مع بُعْدِ التأويل.
20. له رأي آخر في الصاحبيّ ص 468 فقد أجاز للشعراء قصر الممدود.