أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 2]
الآيَةُ صادمةٌ، تُحْدِثُ رجَّةً في رؤوسِ الغافلينَ، كيفَ يُعقَلُ أن يَدَّعيَ الناسُ الإيمانَ ثُمَّ يُترَكوا آمنينَ من غير فُتونٍ.
فجاءَ هذا الاستفهامُ الإنكاريُّ شديداً منبِّها الغافلينَ، وهو إنكارٌ على الظّنّ والحُسبانِ. فَهلْ ظنّوا أنْ يُترَكوا قائلينَ ذلك؛ والمُرادُ بالقَولِ ههنا الكنايَةُ عَن حُصول المَقولِ ووقوعِ التَّرْكِ. أحسبَ الناسُ وُقوعَ تَرْكِهم قائلينَ... والتركُ ههنا عدم تعهد الشيء بعدَ التلبُّسِ به. والتركُ بمعناه الكثيف المملوءِ الكامل؛ ونفيُه هو المُرادُ هنا؛ فلَن يُترَكَ الناسُ وشأنَهُم إذا قالوا- مُعتقدِينَ - إنهم آمَنوا، خاصةً إذا كانَ بجوارِهِم مَن ليسوا بمؤمنين، فلا يُعقلُ أن يَتركوهُم يَتميَّزون عنهُم؛ فَمَن تَرَك مَذاهبَ الناسِ ومِلَلهم ونِحلَهُم فسيُصبحُ لا مَحالةَ عُرضةً لفُتونهِم وحربِهِم وأذاهُم، وكلَّما تَرَكَ ما هُم عليهم ازدادَ تلقّياً للابتلاءِ.
وقَد تعرضَ عمّارُ بنُ ياسر وأبواهُ للتعذيبِ، وكذلك بلالٌ، وكثيرٌ من الصحابَة... فَالفُتونُ - ثَمَناً للإيمانِ بالله- سنةُ الله في سالف خَلْقِه من المؤمنين
اختلاف الحَرَكات الإعرابية والأبنية الصرفية والروابط اللفظية وأثرُ ذلكَ كلّه في دقّة الدّلالَة على المَعاني والأغراض:
فالأوضاع اللفظية باشكالها وأنواعها مَسالكُ دقيقةٌ للمعاني الدقيقَة المُرادَة:
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 14-15]
1- استئنافٌ فيه عَودٌ إلى الأمر [قاتلوهم] بعدَ شبيه بالأمر وهو التحضيض [ألا تُقاتلونَ]
2- جُزمَ المُضارعُ "يعذبْهم" وجُزمَ ما عُطفَ عليه [يُخزهم-ينصركم-يَشف- يُذْهبْ] لوُقوعه في جَواب الأمر [قاتلوهم].
3- والغَرَضُ من الحضّ على قتال المُشركينَ المُعتَدينَ تحقيقُ مَنافعَ:
- تعذيب المشركين بأيدي المسلمين
- خزي المشركين
- نَصرُ المسلمين
- شفاء صدور فريق من المؤمنين
- إذهاب غيظ قلوب المؤمنين
4- أُسنِدَ التعذيبُ إلى الله وجُعلَت أيدي المسلمين آلةً له تشريفاً.
5- في كل غَرَضٍ إكرامٌ للمؤمنينَ وإهانةٌ للمشركين
6- جاءَ الفعلُ "يَتوبُ" مَرفوعا لا مَجزوماً؛ واستُؤنفَ به الكلامُ ولم يأتِ منتظمًا في سلك جواب الأمر، لاختلاف الغَرَض وهو أنّ الله تابَ على فئةٍ ممن كانوا مشركين فأسلَموا؛ وتوبةُ الله عليهم هي قَبولُ إسلامهم، وفيه إمْهالٌ لمَن تأخّرَ؛ فقد تاب الله على أبي سفيانَ، وعكرمةَ بنِ أبي جهل، وسليم بن أبي عمرو...
فهذا شاهدٌ من الشَّواهد على الانتقالِ من حالةٍ إعرابيةٍ إلى أخرى لانتقال المَعْنى [يُذهِبْ غيضَ قُلوبِهِم/ويَتوبُ]، في موضعٍ يشتبه على الناسِ كثيراً ويُشْكِلُ أمرُه عليهم .