قال نابغَة بَني شَيْبانَ
أَرِقْتُ وَشَرُّ الدّاءِ هَمٌّ مُؤَرِّقُ *** كَأَنّي أَسِيرٌ جانَبَ النَومَ مُوثَقُ
تذَكَّرَ سَلْمى، أَو صَريعٌ لِصَحْبِهِ *** يَقولُ إِذا ما عَزَّت الخَمْرُ أَنفِقوا
يغلبُ على الشعر العربي انطلاق الشاعرمن ذاته لوصف ما حَولَه أو رؤيَة العالَم والناس والكَون، فالكلماتُ المُغرقَة في الذّاتيّة كضمائر المتكلم، وإسناد الأفعال إلى الفاعل المتكلم، والأدواتُ اللغوية والكلماتُ المعجميةُ واتّخاذُ الذّات مركَزَ العالَم ومجذبَ الاهتمام ومَلْفتَ انتباه المرأة والناس حولَه، كلُّ ذلكَ أخرجَ لَنا الشعرَ العربيَّ إلى حيّز الوُجود
هذه هي التي تمنَح الشاعرَ وجوداً متميزاً. فباللغة يَحْيا ويوجَد وينتعشُ ويُدرك الكونَ ويُدركُه الناسُ. لَقَد خَرَجَ الشاعرُ من لُغته ومُعجَمه واستعاراته، فبِهاتِه العناصرِ يَحْيا وينتعشُ ويَكون له وجودٌ بين القَبائلِ، وقَد قَطَعَ النابغةُ الشًّيْبانيُّ، المُتوَفّى سنةَ 125 للهجَرة، قُروناً عديدةً ليصلَ إلى عَصرنا، عبرَ لغته وشعره واستعاراته، بل استطاعَ أن يَتحدَّى الممدوحَ على عصره وهو الوليد بن يَزيدَ، الذي لَمّا بَلَغَه قولُه:
اِمدَح الكأسَ ومَن أعمَلَها***واهجُ قَوماً قَتَلونا بالعَطَشْ
فسأل الوليدُ عن قائلها فقالوا: نابِغَة بن شَيْبانَ فقالَ أحضِروه، فلما حَضَرَ استنشَدَه القصيدَةَ وظنَّ أنّه يَمدحُه فيها، فإذا هو يَفتخر بقَومه بَني شَيْبانَ؛ فقال لَه: لو سعِدَ جدُّكَ لَكانَت مَديحاً فينا لا في بَني شَيْبانَ، ولَسْنا نُخليكَ عن ذلكَ مِن حظٍّ، فوَصَلَه وانصَرَفَ.
لَم يمدحْ الوليدَ بل مَدَحَ قبيلَتَه التي فيها روحُه ونَفْسُه ومُقامُه، ومَحْياه ومماتُه. وأوّل القصيدَة:
خَلَّ قَلبي مِن سُلَيمى نَبلُها *** إِذ رَمَتني بِسِهامٍ لَم تَطِش
فقَد تحقق للشاعر مُبْتَغاه، بلُغَته وقصائدِه واستعاراته، سواء أوَجَدَ فيها المُخاطَبونَ أو المُتلقّون ما يَبتغونَ أم لم يَجدوا، المهمُّ أن يُبدعَ الشاعرُ شعراً؛ فكلما أنشدَ شعرا فثمَّ ميلادٌ جديدٌ لَه.