البطاقة العروضية
من علامات تحقق الباحث بالبحث عدم انخداعه بظواهر الأشياء عن بواطنها، ومن علامات توفيقه في تحققه هذا أن يقف على أجزائها فأجزاء أجزائها فأجزاء أجزاء أجزائها وهلم جرا؛ حتى إن كثيرا من الاكتشافات المكرمة بأرفع الجوائز لم يكن غير ذلك. وفي هذا المقام ينبغي أن نذكر أبا عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي عبقري اللغة العربية الذي لم نرَ عبقريا فَرَى فَرِيَّه!
لقد دلنا تراث علم الخليل بالشعر على أنه استبطن شعر العالم كله حتى وقف على شعر العرب بعد شعر العجم، وشعر العرب كله حتى وقف على شعر الشاعر بعد الشاعر، وشعر الشاعر كله حتى وقف على القصيدة بعد القصيدة، والقصيدة كلها حتى وقف على البيت بعد البيت، والبيت كله حتى وقف على الشطر بعد الشطر، والشطر كله حتى وقف على التفعيلة بعد التفعيلة، والتفعيلة كلها حتى وقف على الوتد والسبب، والوتد والسبب كليهما حتى وقف على المتحرك والساكن. ولولا ذلك الذي اشتمل في وعيه على نتاجه مع نتاج من قبله، ما استطعنا الآن أن نطمئن إلى علمنا بالشعر!
ولو أدرك الخليل زماننا لاستبطن المتحرك والساكن كليهما حتى وقف على ذبذباتهما، وذبذباتهما كلها حتى وقف على حركاتها...، ثم قرن بأوائل فصول كلامه في نمط من الوزن والقافية، صورتَهما في أحد أجهزة التسجيل أو القياس الصوتي، مثلما فعلت في الصورة الملحقة بتفعيلات بيت من بحر الطويل؛ فكانت جديرة أن ندعي لها على الحقيقة ما سميتُه من قبل: "البطاقة العروضية"!