نعرض في هذه الكلمات ثلاثة مشاهد مع القرآن الكريم، نستعيد بها روحه، ونقف مع حالنا المؤسف معه..

المشهد الأول:
الشياطين مجتمعون في اجتماع عاجل، فقد حِيلَ بَيْنَهم وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فلا يستطيعون أن يسترقوا السمع في الملأ الأعلى، كلما صعدوا وأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فقالوا: مَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ شَيْءٍ حَدَثَ!

فَانْطَلَقُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، حتى أتوا قرب سوق عُكَاظٍ، فوجدوا المسلمين مصطفين خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم، يصلي بهم صلاة الفجر، وإذا بصوت القرآن يخترق أسماعهم، ويخلخل تماسكهم، ويهز مشاعرهم، فأخذوا ودهشوا، وتكأكأوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليستمعوا له، يلتصق بعضهم ببعض، كما تكون لبدة الصوف المنسوق شعرها، بعضه لصق بعض! .. وهذا ما صوره الله في قوله، {وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} أي: متجمعين متكتلين عليه، حين قام يصلي ويدعو ربه ويتلو القرآن.

لتنطلق في كيانهم دفعة عنيفة من التأثر امتلأ بها كيانهم كله وفاض، وهنا وجدوا ما كانوا يبحثون عنه، وعلموا أن سحر القرآن الذي يغير ما في الكيان، هو الذي غير ما في الأكوان، وقالوا: هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ.

فانطلقوا إلى قومهم بنفوس محتشدة مملوءة فائضة بما لا تملك له دفعًا، ولا تملك عليه صبرًا، قبل أن تفيضه على الآخرين في هذا الأسلوب المتدفق، النابض بالحرارة والانفعال، والحماسة والاندفاع، وبالجد والاحتفال في نفس الأوان، فَقَالُوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}.

وهذه صفة القرآن عند من يتلقاه بحسٍ واع وقلب مفتوح، ومشاعر مرهفة، وذوق ذواق.. (عجب) حقًا! يثير الدهش في القلوب، له سلطان متسلط، وجاذبية غلابة، وإيقاع يلمس المشاعر ويهز أوتار القلوب.. عجب! فعلًا. غير مألوف فليس بقول شاعر ولا كهانة كاهن، ولا حديث بشر، هو كلام الله العلي!

والصفة الثانية البارزة كذلك في هذا القرآن، والتي أحسها النفر من الجن، حين وجدوا حقيقتها في قلوبهم أنه «يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ».. وكلمة الرشد في ذاتها ذات دلالة واسعة المدى، فهو يهدي إلى الهدى والحق والصواب، ولكن كلمة الرشد تلقي ظلا آخر وراء هذا كله، ظل النضوج والاستواء والمعرفة الرشيدة للهدى والحق والصواب، ظل الإدراك الذاتي البصير لهذه الحقائق والمقومات، فهو ينشئ حالة ذاتية في النفس تهتدي بها إلى الخير والصواب.

والقرآن يهدي إلى الرشد بما ينشئه في القلب من تفتح وحساسية، وإدراك ومعرفة، واتصال بمصدر النور والهدى، واتساق مع النواميس الإلهية الكبرى. كما يهدي إلى الرشد بمنهجه التنظيمي للحياة وتصريفها.

لذلك كانت الاستجابة الطبيعية المستقيمة لسماع القرآن، وإدراك طبيعته، والتأثر بحقيقته.. «فَآمَنَّا بِهِ» غير منكرين لما مس نفوسهم منه ولا معاندين، إيمانًا خالصًا صريحًا صحيحًا. غير مشوب بشرك، ولا ملتبس بوهم، ولا ممتزج بخرافة، الإيمان الذي ينبعث من إدراك حقيقة القرآن، والحقيقة التي يدعو إليها القرآن، حقيقة التوحيد لله بلا شريك. «وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً» ..

ويؤكدون على ذلك مرة أخرى بقولهم «وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ» .. فحقيقة القرآن أنه هدى، ولأنه هدى سيبعث الطمأنينة في القلب والثقة في الله، أنه لن يبخس المؤمن حقه، ولن يرهقه بما فوق طاقته. «فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً».. فالعوض عما يحرمه المسلم من أعراض الحياة الدنيا يمنع عنه البخس، والمدد الذي يدركه وقت الألم يهوّن عليه المشقة ويمنع عنه الرهق.

هذا هو المشهد الأول، مشهد أبطاله من مخلوقات نارية، سحرهم القرآن وأثر في وجدانهم، مشهد خفي عن أعين هذا العالم، حتى لم يدرِ النبي صلى الله عليه وسلم به، إلا بعدما انصرفوا فَأَنْزَلَ اللهُ –تعالى- عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الجن: 1] إلى آخر الآيات .. والحديث رواه البخاري.

المشهد الثاني:
في ظلام الليل، وسكون الصحراء.. أخذ أُسَيْد بنِ حُضَيْرٍ يلاعب غلامه الصغير يحيى، وبعد مضي وقتٍ نام الغلام إلى جوار فرس والده المربوط.. أما أُسَيْد فكانت عينه ساهرة واشتاقت روحه إلى خالقه.. فأخذ يقرأ القرآن، واستفتح بسورة البقرة، يتلو بصوتٍ عذب حسن، يستمتع.. يبكي..تمنَّى لحظتها ألَّا ينقضي الزمن من بين يديه، وفجأة اضطربت الفرس اضطرابًا شديدًا وجَالَتْ جَوْلَةً، أوقف قرأته، نظر نحو الفرس يطمئن على ولده المضطجع بجوار قدميها، فسكتت الفرس وسكنت، اطمئن بعض الشيء، جمع أنفاسه، واستعاد قراءته، يرتل، يتستمتع، لكن لم تمهله فرسه، فجالت مرة أخى واضطربت، خاف على ولده، سكت ليطمئن عليه، فسكتت الفرس، عاد إلى الآيات يستكملها، يرتل، يسترسل، فجالت الفرس وتحركت واضطربت، فَأَشْفَقَ أَنْ تَطَأَ ابنه يَحْيَى، فقام إليه يأخره عن مكانه، وأثناء قيامه، رفع رأسه نحو السماء، فهاله ما رآه فيها، أنوار ومصابيح كثيرة مجتمعة في السماء مِثْلُ السحابة، كانت المصابيح هذه تقترب من الأرض وتنزل من السماء، ففزع أسيد وأوقف القراءة وخَرَجَ من مكانه فلم يرَهَا.

وفي الصباح جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وحكى له ما حدث معه في الليل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «وَتَدْرِي مَا ذَاكَ؟»، قَالَ: لاَ، قَالَ: «تِلْكَ المَلاَئِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا، لاَ تَتَوَارَى مِنْهُمْ» رواه البخاري.

وهذا هو المشهد الثاني، أبطاله مخلوقات نورانية، تأثروا لتلاوة سورة من القرآن بصوت رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم، فتنزلوا عليه من السماء، يحتشدون إلى الأرض، حتى أنه لو أكمل، لزادوا وانتشروا في الأرض يراهم الملائكة دون حجاب.. إنه القرآن!

المشهد الثالث:
في حشدٍ من المشركين، وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقرأ سورة النجم، وكأنه يقرأ بيانًا تحذيريًّا إلى مشركي قريش؛ فالسورة فيها من القوارع ما فيها، ولم يقدر على مقاطعته أحد، ويا ليتنا نتصوَّر هذا الموقف، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقرأ القرآن بصوته العذب، وخشوعه الكامل، وفهمه العميق لكل حرف، ثم الجميع حوله يُنصت، وكأن على رءوسهم الطير!

ومع أن الآيات تُهين آلهة قريش، وتحقر من شأنها، فإن المشركين لم ينبثُوا بكلمة واحدة؛ بل ظلُّوا يستمعون القرآن مبهورين انبهارًا كاملًا، مع ملاحظة الخطاب المباشر للمشركين في أكثر من آية؛ وذلك مثل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ}، و{أَلَكُمُ الذَّكَرُ}، و{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ}، فهذه كلها كلمات خطابية لهم، وأسئلة موجَّهة لعقولهم، وعليهم أن يبحثوا عن إجابة عنها.

وتمضي الآيات تكشف عن خبايا المشركين، وتفضحهم أمام أنفسهم، وتوضِّح جريمتهم الشنيعة يوم أشركوا بالله ربِّ العالمين،

وتشرح صفة الإله القدير الذي نعبده، كما تُوَضِّح عاقبة الأقوام الذين كذَّبوا قبل أهل مكة؛ ثم تسارعت وتيرة الآيات، وعلت النبرة بشدَّة! لتختتم بتلك الكلمات:

{هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ* فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا}[النجم: 56-62].

حينها وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد، ويسجد معه المؤمنون، فلم يشعروا بأنفسهم إلا وهم ساجدون، سجدوا جميعًا في سابقة ليس لها مثيل في التاريخ! وهي أن يسجد الكفار مع المؤمنين في لحظة واحدة مع رسول واحد! قال ابن عباس رضي الله عنهما: «سَجَدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ» رواه البخاري.

ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «قَرَأَ النَّبِيُّ النَّجْمَ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ، غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ، وَقَال: يَكْفِينِي هذَا. فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذلِكَ قُتِلَ كافرًا». والشيخ المشرك الذي لم يسجد هو أمية بن خلف كما ورد في بعض الروايات.

كانت هذه مشاهد ثلاثة مع القرآن، اخترتها بعناية لنحدد موقفنا نحن من القرآن، مشهد الموكب النوراني للملائكة وهي تتنزل لتلاوة أحد الصحابة، مشهد الجن وهم متلبدون بعضهم فوق بعض على النبي يستمعون تلاوته ويؤمنون به ويدعون قومهم، مشهد المشركين بقلوبهم الغلف ومع ذلك سحبوا بقلبهم مع تلاوة النبي حتى ما شعروا بأنفسهم وهم يسجدون تأثرا بالآيات مع النبي.

فما لنا لا نتأثر بهذا القرآن، ما لنا لا نخشع ولا نحتفي به، والله يقول: {لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

سمع الوليد بن المغيرة -أحد سادات قريش- القرآن فقال: «والله! إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة..وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله..وإنه ليعلو وما يُعلى عليه.. وإنه ليحطم ما تحته»!!

أكان قلب الوليد بن المغيرة أرقَّ من قلوبنا؟! أيتأثر المشركون بسماعه ولا نتأثر؟ أم أن هناك أمرًا ما نحن عنه غافلون؟!

واقع الأمر أن الذي لا يتدبَّر القرآن لم يفهم على الحقيقة ما هو القرآن! والقرآن ببساطة هو «رسالة»! إنه رسالة من ربِّ العالمين إلى البشر يدلُّهم فيها على ما يُصلح دنياهم وآخرتهم، وهو ما ذكره الحسن بن علي رضي الله عنهما في قوله العميق: «إنَّ مَنْ كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبَّرونها بالليل، ويتفقَّدونها في النهار».

وكان عبد الله بن مسعود يقول: «إذا سمعت الله – جلا وعلا – في كتابه يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأرعها سمعك، وأعطها أذنك فهي إما خير تؤمر به، أو شر تُنهى عنه».

وقال أيضًا: من كان يحب أن يعلم أنه يحب الله، فليعرض نفسه على القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، فإنما القرآن كلام الله.

وقال عثمان بن عفان: (لو طهرت قلوبكم، ما شبعت من كلام ربكم).

قال أبو حامد الغزالي: أما تستحي أن يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في الطريق فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرؤه وتتدبره حرفًا حرفًا حتى لا يفوتك شيء منه، وهذا كتاب الله أنزله إليك.. انظر كم فصَّل لك فيه القول.. وكم كرره عليك لتتأمل وتتدبر، ثم أنت بعد كل هذا معرض!! أفجعلت الله أهون عليك من بعض إخوانك؟

يزورك أخوك فتقبل عليه بكل وجهك وتصغي إلى حديثه بكل قلبك، فإن تكلم متكلم أو شغلك شاغل عن حديثه أومأت إليه أن كُفَّ، وها هو الله يقبل عليك ويتحدَّث إليك وأنت مُدبر مُعرض مشغول.. أفجعلته أهون عندك من بعض خلقه؟!

{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد: 24].

أحمد المنزلاوي