ابن ملكا.. فيلسوف العراقيين الذي أسس لعلاج الأوبئة قبل 10 قرون
حين كانت بلاد العراق منارة للحضارة الإنسانية وبحرًا للعلوم والفلسفة، في القرن الحادي عشر، ذاع صيت العالم أبو الحسن سعيد بن هبة الله، الذي كان حينها علامة زمانه، فكان يتربع على عرش علماء الطب والفلسفة، وكان قبلة الحائرين في دروب العلم، الباحثين عن التعلم والتفقه.
وفي بداية هذا القرن فرضت إحدى المسائل العلمية نفسها، فلجأ الناس إلى العلامة هبة الله لحلها، لكنه عجز عن ذلك، وبينما كان الجميع في حيرة من أمرهم بسبب تلك المسألة، هب تلميذ كان يتعلم خلسة عند عالم المدينة، كونه يهوديًا وكان هبة الله لا يحب تعليم اليهود، ليفاجأ الجميع بإجابة التلميذ اليهودي هذه المسألة الصعبة، حيث استعان بكلام من العالم جالينوس.
حالة من الحيرة سادت مجلس العلماء بسبب إجابة هذا التلميذ، وبات السؤال الأكثر حضورًا على لسان الجميع: أين تلقى علمه؟ وعلى يد من؟ إلا أنه أجاب إجابة كانت بمثابة الصاعقة على الجميع، حيث أشار أنه كان يتنصت من تحت دهليز الشيخ هبة الله، بحيث يسمع جميع ما يقرأ عليه، فكان أن قبل هبة الله بتعليم التلميذ، فمن هذا الطالب الفذ؟
كان هذا التلميذ النبيه هو أبو البركات ابن ملكا البلدي الذي صار فيما بعد واحدًا من أعظم العلماء العرب والعالم، الذي لقب بـ"وحيد زمانه"، وعُرف بين الناس بـ"فيلسوف العراقيين"، وكان أحد أبرز الشخصيات في القرن الثاني عشر الميلادي، لما ساهم به في إثراء التراث العلمي والفلسفي العربي، وتميز بمواهب كثيرة.
حكمة مبكرة
"فلما قل عدد العلماء والمتعلمين وقصرت الأعمار وقصرت الهمم وانقرض كثير من العلوم، أخذ العلماء في تدوين الكتب وتصنيفها.. واستعملوا في كثير منها الغامض من العبارات والخفي من الإشارات التي يفهمها أرباب الفطنة، ويعرفها أهل صيانة العلوم.. فلما استمر الأمر في تناقص العلماء وقلتهم في جيل بعد جيل، أخذ المتأخرون في شرح ذلك العويص، وإيضاح ذلك الخفي ببسط وتفصيل وتكرار وتطويل حتى كثرت الكتب والتصانيف وخالط أهلها فيها كثيرًا من غير أهلها واختلط فيها كلام الفضلاء المجودين بكلام الجهال المقصرين"، بهذه الرؤية يوضح ابن ملكا العوامل التي دفعته إلى وضع كتابه "المعتبر في الحكمة"، وهو أشهر مؤلفاته التي رسمت وبشكل كبير الخط الفكري العام له.
ولد أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا البلدي البغدادي عام 480هـ الموافق للسنة 1077 ميلادية بضيعةٍ اسمها البلد - التي سميّ باسمها - بمدينة الموصل العراقية، تعود جذوره لعائلة يهوديةٍ متعصبةٍ، اختارت له اسم ناثانيل العبري، تلقى تعليمه على يد علامة البصرة هبة الله، وفي وقت قصير جدًا بات أبرز التلامذة المقربين منه.
كان شغوفًا بالعلم ومجالسة الصالحين والعلماء، ونتيجة لذلك وما حققه من شهرة كبيرة، بات مطلبًا للملوك والخلفاء للاستعانة بحكمته وعلمه، ومنهم المسترشد بالله العباسي الذي طلب الاستعانة به سنة 512هـ إلا أنه وقع في أسر السلطان مسعود الذي شن حربًا على المسترشد سنة 529هـ، غير أن مداواته لأحد السلاطين جعل السلطان مسعود يفك سبيله ويغدق عليه بالعطايا ليسلم فيما بعد.
قصة إسلامه كانت مثار اختلاف المصادر التاريخية، ففي كتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" يذكر ابن أبي أصيبعة أن سبب إسلامه يعود إلى أنه "دخل يومًا إلى الخليفة المستنجد بالله، فقام جميع من حضر إلا قاضي القضاة كان حاضرًا ولم يقم مع الجماعة لكون ابن ملكا ذميًا، فقال الأخير يا أمير المؤمنين إن كان القاضي لم يوافق الجماعة لكونه يرى أني على غير ملّته، فأنا أسلم بين يدي مولانا، ولا أتركه ينتقصني بهذا وأسلم".
أما الإمام البستاني فيذهب إلى أن سبب إسلامه يعود إلى أمرين هما: خوفه من وفاة زوجة السلطان محمود التي طببها، وسقوطه في الأسر على يد السلطان مسعود مما جعل حياته مهددة، بحسب ما ذكر في كتابه "دائرة المعارف"، وفي المقابل يشكك البعض في إسلام ابن ملكا، ومنهم عبد المنعم الحفني، إذ يذكر في موسوعته أنه كان يظهر إسلامه ويبطن عقيدته وأن إسلامه كان خوفًا من السلطان وطلبًا لنِعم، ويستدل في ذلك بمدح الشاعر اليهودي إسحاق بن إبراهيم بن عزرا لابن ملكا بقصيدة باللغة العبرية، وتفسير أبو البركات "سفر الجامعة" اليهودي باللغة العربية.
أبو علم الحركة
لم يكن ابن ملكا فيلسوفًا فحسب، بل برع في علوم الفيزياء والحركة، حتى أطلق عليه "أبو علم الحركة"، إذ أثرى هذا المجال من العلوم بالعديد من الرؤى والنظريات التي فند بها بعض أقوال عمالقة الفيزياء على مر التاريخ، فدرس مسألة سقوط الجسم تحت تأثير قوة جذب الأرض، متخذًا في ذلك أقصر الطرق في سعيه للوصول إلى موضعه الطبيعي، وهو الخط المستقيم، وفي هذا الشأن يقول: "فكل حركة طبيعية فعلى استقامة".
كذلك كان يرى أنه لولا تعرض الأجسام الساقطة سقوطًا حرًا لمقاومة الهواء لتساقطت الأجسام المختلفة الثقل والهيئة بالسرعة نفسها، وبذلك يكون ابن ملكا من أوائل من نقضوا القول المأثور عن أرسطو بتناسب سرعة سقوط الأجسام مع أثقالها، وهو قول خاطئ تمامًا، وهو يعد سبقًا علميًا يحسب لفيلسوف العراق، قبل غاليليو، وهنا يقول: "لو تحركت الأجسام في الخلاء، لتساوت حركة الثقيل والخفيف، والكبير والصغير، والمخروط المتحرك على رأسه الحاد، والمخروط المتحرك على قاعدته الواسعة، في السرعة والبطء، لأنها تختلف في الملء، بهذه الأشياء بسهولة خرقها لما تخرقه من المقاوم المخروق كالماء والهواء وغيره".
كما كان له حضور مميز في علوم قوانين الحركة، ومنها أن "الحركة إما طبيعية وإما قسرية، والقسرية يتقدمها الطبيعية، لأن المقسور إنما هو مقسور عن طبعه إلى طبع قاسره، فإذا لم يكن حركة بالطبع لم يكن حركة بالقسر، والطبيعية إنما تكون عن مباين بالطبع إلى مناسب بالطبع، أو إلى مناسب أنسب من مناسب".
ويقصد العالم العربي بالحركة الطبيعية حركة الجسم تحت تأثير قوة الجاذبية الأرضية، حيث إن الجسم يسعى في طلب وضعه الطبيعي عند مركز الأرض، ومن ثم جاءت تسمية هذا النوع من الحركات عن تعريض الجسم لمحرك خارجي يجبره على تغيير مكانه أو وضعه، مثال ذلك رمي السهم أو الحربة أو الحجر، كما جاء في كتاب "تاريخ علم الميكانيك".
لعالم العراق العديد من المؤلفات منها "المعتبر" الذي تناول فيه المنطق والطبيعيات بما في ذلك علم النفس والإلهيات
طبيب نفسي
كثير من المتابعين لسيرة ابن ملكا، لا يرون في حياته الجانب المتعلق بالعلاج النفسي، رغم ما حققه من نجاحات كبيرة فيه، ولعل ما يعانيه العالم اليوم من أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد، فرصة جيدة لإلقاء الضوء على هذا الجانب الخفي في حياة الفيلسوف العالم الذي وضع الأسس الأولية لعلاج الأوبئة قبل 10 قرون كاملة.
في منتصف القرن الـ12 تفشى في بلاد العراق والأقطار المجاورة بعض الأوبئة والأمراض التي استعصى معها العلاج بالطرق التقليدية المتعارف عليها آنذاك، ومن بين تلك الأوبئة التي انتشرت في هذا الوقت ما ذكرته بعض كتب التاريخ من أن رجلًا أتى أبا البركات وقد أصابه الوباء فتمكن الورم من رجله، فبادر فيلسوف الموصل إلى قطع أصابع الرجل، وهو ما لم يعجب أطباء هذا الزمان ممن انتقدوا طريقة ابن ملكا في العلاج.
لكنه لم يستمع إليهم، فأعاد الكرة مع مريضٍ ثان وثالث، ولم يردّ على معاتبيه من أهل الاختصاص، وفي المقابل استعان الأطباء بالطرق التقليدية في العلاج، دون القطع، ما جعل الوباء يتفشى حتى اهتدوا إلى علاج أبي البركات بضرورة قطع الرجل لكي لا ينتشر المرض إلى أنحاء الجسم كافة.
كما أبدع العالم العراقي في مجال الطب النفسي كذلك، ففي كتاب "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" ذُكر أن "مريضًا ببغداد كان عرض له علة الماليخوليا، وكان يعتقد أن على رأسه دنا، وأنه لا يفارقه أبدًا، فكان كلما مشى يتحايد المواضع التي سقوفها قصيرة ويمشي برفق، ولا يترك أحدًا يدنو منه حتى لا يميل الدن أو يقع عن رأسه، وبقي بهذا المرض مدة وهو في شدة منه، وعالجه جماعة من الأطباء، ولم يحصل بمعالجتهم تأثير ينتفع به، إلى أن عُرض على ابن ملكا، ففكر في أنه ما بقى شيء يمكن أن يبرأ به إلا بالأمور الوهمية، فقال لأهله: إذا كنت في الدار فأتوني به، وأمر أحد غلمانه بأن ذلك المريض إذا دخل عليه وشرع في الكلام معه، وأشار إلى الغلام بعلامة بينهما، أن يسارع بخشبة كبيرة فيضرب بها فوق رأس المريض على بعد منه كأنه يريد أن يكسر الدن الذي فوق رأسه، وأوصى غلام آخر، وكان قد أعد معه دنا في أعلى سطح المنزل، أنه متى رأى الغلام الأول قد ضرب فوق رأس صاحب الماليخوليا، أن يرمي الدن الذي عنده بسرعة إلى الأرض".
توفي بهَمَذَان عام 560هـ عن عمر يناهز الـ80 عامًا، بعد أن أصابه الجذام، فعالج نفسه بتسليط الأفاعي على جسده بعد أن جوَّعها، فبالغت في نهشه، فبرئ من الجذام وعَمِيَ
"وجلس ابن ملكا في داره وأتاه المريض وشرع في الكلام معه وحادثه، وأنكر عليه حمله للدن، وأشار إلى الغلام الأول بالعلامة التي بينهما، وحدث المريض قائلًا: والله لا بد أن أكسر هذا الدن وأريحك منه، وأدار الغلام الخشبة التي معه وضرب بها فوق رأس المريض بنحو زراع، ورمى الغلام الآخر الدن من أعلى السطح، فكانت له جلبة عظيمة، وتكسر قطعًا كثيرة، فلما عاين المريض ما فُعل به ورأى الدن منكسرًا، تأوه لكسرهم إياه، ولم يشك أنه الذي كان على رأسه، وأثر فيه الوهم أثرًا برئ من علته تلك"، وهنا علق ابن أبي أصيبعة مؤلف الكتاب على عمل ابن ملكا قائلًا: "وهذا باب عظيم في المداواة، وقد جرى أمثال ذلك لجماعة من الأطباء المتقدمين مثل غالينوس وغيره في مداواة الأمور الوهمية".
ولعالم العراق العديد من المؤلفات منها "المعتبر" الذي تناول فيه المنطق والطبيعيات بما في ذلك علم النفس والإلهيات، كذلك اختصار التشريح من كلام جالينوس، ومقالة في سبب ظهور الكواكب ليلًا واختفائها نهارًا، بجانب عدد من الرسائل منها: رسالة في العقل وماهيته ورسالة في صفة برشعتا، وهو دواء هندي، ورسالة في صفة دواء ترياقي يقال أمين الأرواح.
توفي بهَمَذَان عام 560هـ عن عمر يناهز الـ80 عامًا، بعد أن أصابه الجذام، فعالج نفسه بتسليط الأفاعي على جسده بعد أن جوَّعها، فبالغت في نهشه، فبرئ من الجذام وعَمِيَ، وفق ما ذكرت بعض المصادر، ثم حُمِلَ تابوته إلى بغداد، بعد أن أثرى المكتبة العربية بإسهاماته المميزة في علوم الفيزياء والفلسفة والطب.