كيف نولد الكهرباء من الحرارة المُهدرة ؟
المصدر: أمجد قاسم - القافلة
أول نموذج للمولِّد الحراري الكهربائي، الذي يعمل على تحويل الحرارة الضائعة والمبدّدة من محركات السيارات والآليات المختلفة إلى طاقة كهربائية
يطلق كثير من الأجهزة والآلات والمحركات الكهربائية، وكذلك محركات السيارات ووسائط النقل العاملة على مختلف أنواع الوقود، كميات كبيرة من الطاقة الحرارية التي تتبدَّد ولا يستفاد منها. وهذه الطاقة المهدرة ملازمة لكافة أنواع المحركات والآلات المستخدمة حالياً، حتى تلك الصديقة للبيئة، كالسيارات الكهربائية التي يتحوَّل جزء من طاقة بطاريتها الكهربائية إلى حرارة أثناء الاستخدام، وهذه الطاقة المفقودة أو المهدورة نلاحظها أيضاً في الحواسيب المحمولة والأجهزة اللوحية وغيرها.
والحال أن الطاقة المهدرة استرعت اهتمام كثير من الباحثين المهتمين بحصاد الطاقة من كافة مصادرها المتاحة، فتم تطوير عدَّة تقنيات ومواد جديدة للاستفادة من هذه الحرارة وتحويلها إلى طاقة كهربائية.
وتتركز أبحاث كثيرة في وقتنا الحاضر على حصاد الطاقة من مصادر لم تكن موضع اهتمام في السابق. فظهرت تقنيات توليد الطاقة من حرارة جسم الإنسان، وأخرى من حركة المشاة على الأرصفة، وكذلك من حركة السيارات على الطرق السريعة. وأشارت عدة تقديرات إلى أن ثلث الطاقة المستخدمة في الصناعة في الولايات المتحدة الأمريكية تُفقد على شكل حرارة، ويمكن الاستفادة من جزء كبير منها.
حرارة السيارات
تنتج محركات السيارات ووسائط النقل المختلفة العاملة على الوقود الأحفوري أو الوقود الحيوي، كميات كبيرة من الطاقة الحرارية الضائعة. وقد اهتمت مراكز الأبحاث في العالم بهذه الطاقة المهدورة، ومنها مركز الطاقة في الولايات المتحدة الأمريكية الذي أجرى أبحاثاً لتحويل هذه الحرارة المنبعثة من الآليات والسيارات في الهواء المحيط بالمركبة، إلى طاقة كهربائية يمكن الاستفادة منها لشحن بطارية السيارة الهجينة أو لتشغيل عدد كبير من أجزاء السيارة الكهربائية. الأمر الذي سوف يقلل من استهلاك الوقود في السيارة الهجينة، وينعكس إيجاباً على البيئة، من خلال تقليل الانبعاثات الغازية الضارة الناجمة عن احتراق الوقود في محركات تلك المركبات.
وقد بذل باحثون في مختبرات معهد "أم آي تي" الأمريكي جهوداً كبيرة على امتداد عدَّة سنوات، باستخدام تقنية النانو لتطوير أجهزة خاصة لتحويل الحرارة المفقودة إلى طاقة كهربائية. وقد طرحت شركة (GMZ) للطاقة أول نموذج للمولِّد الحراري الكهربائي، الذي يعمل على تحويل الحرارة الضائعة والمبدّدة من محركات السيارات والآليات المختلفة إلى طاقة كهربائية. حيث تمر تلك الحرارة في أعلى الجهاز عبر مواد نصف ناقلة (أشباه موصلات) حتى تصل إلى الجزء البارد من الجهاز، وبفعل الفارق في درجات الحرارة بين الجزء العلوي والجزء السفلي من الجهاز، تتحرك الإلكترونات داخل المواد نصف الناقلة، مما يؤدي إلى حدوث فرق في الجهد يولِّد تياراً كهربائياً.
أثبت هذا الجهاز الحديث قدرته الجيدة على توليد الكهرباء من الطاقة الحرارية المفقودة. وقد تم تركيبه على أنبوب عادم السيارة نظراً لسخونته العالية، للاستفادة من حرارة غازات الاحتراق لتوليد الكهرباء.
يجدر التذكير هنا أن أعلى مردود ميكانيكي لمحرك احتراق داخلي يتراوح بين %50 و%60. وأن النسبة المتبقية من الطاقة التي تنتج من المحرِّك تكون ضائعة على شكل حرارة وغازات احتراق يتم نفثها من عوادم تلك المركبات. فإذا تمَّت الاستفادة من تلك الطاقة الضائعة وتحويلها إلى كهرباء سترتفع الكفاءة التشغيلية لتلك المركبات التي تستهلك كميات هائلة من الوقود.
سبائك النيتينول (Nitinol) التي تتكوَّن من النيكل والتيتانيوم، الذي يحوِّل حرارة المياه المهدرة إلى طاقة كهربائية
السبائك المتذكِّرة للشكل
اخترعت هذه السبائك قبل 60 عاماً، وهي عبارة عن فلزات وبعض اللافلزات التي يتغير شكلها إلى أشكال محدَّدة مسبقاً لدى تعرضها لدرجات حرارة معينة، أو تعرضها للضغط أو لمحفزات كهربائية. واستخدمت في مجالات هندسة الطيران والطب الحيوي وغيرهما من المجالات المهمة. وحديثاً، اكتشف الباحثون إمكانية الاستفادة منها للحصول على الطاقة الكهربائية من المياه الساخنة. وعلى هذا الأساس صنعت شركة "إكسيرجين" محركاً مكوناً من أسلاك متذكّرة الشكل قادرة على إنتاج الطاقة الكهربائية من الماء الساخن الناتج من بعض العمليات الصناعية.
يقول عالم الجزيئات الضخمة وخبير الحرارة المهدرة في جامعة كيس ويسترن، الباحث ريغو بيرتو أدفينكولا: "إن معظم العمليات الصناعية ينتج عنها هدر لكميات ضخمة من الطاقة على شكل حرارة أو خلال عملية تبريد الآلات أو في محطات توليد الطاقة. فهذه العمليات تنتج كميات كبيرة من المياه الساخنة التي يستفاد أحياناً منها لتشغيل محركات ثانوية لإنتاج الكهرباء. أما النسبة الأكبر من تلك المياه الساخنة لا يستفاد من طاقتها الحرارية".
وهنا تظهر أهمية تقنية سبائك الذاكرة، التي يعتمد عليها محرك "إكسيرجين" الجديد المصمم باستخدام سبائك النيتينول (Nitinol) التي تتكوَّن من النيكل والتيتانيوم، الذي يحوِّل حرارة المياه المهدرة إلى طاقة كهربائية.
وقد بيّن الباحثون أن التركيب الجزيئي لسبيكة النيتينول يظهر أنها على شكل أشباه مكعبات منتظمة، بينها زوايا 90 درجة، ولدى تسخين تلك الجزيئات، فإنها تغير من زواياها لتصبح زوايا حادة أو منفرجة، وهي بذلك تنكمش ويقل طولها، وعندما تبرد المادة، تستعيد جزيئات النيتينول شكلها السابق وتصبح الزوايا قائمة وتعود إلى طولها قبل التسخين.
ويقوم مبدأ عمل محرك "إكسيرجين" على الاستفادة القصوى من حرارة المياه الساخنة الناتجة عن المبادلات الحرارية وغيرها. إذ يندفع الماء الحار إلى داخل غرف المكبس التي توجد بها أسلاك نيتينول المتأثرة بالحرارة، حيث تنكمش ويقل طولها بمقدار قليل. وبعدها يعمل المحرك على تدوير ماء بارد في غرفة المكبس، فيتمدَّد سلك نيتينول إلى سابق شكله، فيتحرك المكبس الذي يدفع سائلاً لزجاً، يتحرَّك عبر ناقل هيدروليكي مولِّداً للكهرباء. وهكذا تتكرَّر عملية تسخين وتبريد سلك نيتينول ليستمر المولد بإنتاج الطاقة الكهربائية.
جهاز خاص لتحويل حرارة جسم الإنسان إلى طاقة كهربائية
يذكر أن محرك السبائك المتذكرة للشكل تم اختراعه في سبعينيات القرن الماضي من قبل المهندس ريدجواي بانكس الذي حصل على براءة اختراع له. لكن هذا المحرك لم يثبت جدواه في حينه. وفي عام 2010م تبنت شركة "جنرال موتورز" الفكرة بالتعاون مع وكالة مشاريع الأبحاث المتقدِّمة للطاقة في وزارة الطاقة الأمريكية، حيث أجريت أبحاث لتطوير تقنيات توليد الطاقة الكهربائية من الحرارة المفقودة باستخدام السبائك المتذكرة للشكل.
واحتفظت شركة "إكسيرجين" بسر صناعتها هذه السبائك وأسلاك نيتينول، واستخدمتها في محرِّكها الجديد الذي أصبح قادراً على إنجاز 10 ملايين دورة قبل أن يُتلف. وهذا لم يكن ممكناً سابقاً، إذ إن سبائك الذاكرة كانت تتعرَّض للتلف السريع قبل أن تطور شركة إكسيرجين سبيكتها الخاصة.
يقول ألان هيلي، الرئيس التنفيذي للشركة إنه سيتم تنفيذ اختبارات ميدانية على هذا المحرك الخاص بإنتاج الطاقة من الحرارة المهدرة لمعرفة مدى كفاءته وفعاليته، وإنه تم تخصيص 9 ملايين دولار لتركيب محركات تجريبية بقدرة 10 كيلو واط في عدد من مصانع الغاز الحيوي في دبلن.
مواد كهروحرارية جديدة
تواجه تكنولوجيا المواد الحرارية - وهي تلك المواد القادرة على تحويل الحرارة إلى طاقة كهربائية - عقبة أساسية تتمثل في انخفاض قدرتها على إنتاج التيار الكهربائي نتيجة تعثرها بمتناقضين: فمن ناحية، عليها أن تقوم بتوصيل الكهرباء قدر الإمكان؛ ومن ناحية أخرى، يجب أن تنقل الحرارة بأقل حد ممكن. وهذا تحدٍّ، لأن الموصلية الكهربائية والتوصيل الحراري عادة ما يرتبطان ارتباطاً وثيقاً.
وقد أعلن العلماء في "مختبر كريستيان دوبلر للكهرباء الحرارية"، الذي تأسس في عام 2013م في "جامعة فيينا للتكنولوجيا"، عن تطوير مادة جديدة تتخطى هذه المعوقات، ويمكنها توليد طاقة كهربائية ضعف قدرة المواد المستخدمة حالياً.
هذه المادة، وهي عبارة عن طبقة رقيقة من مزيج الحديد والفاناديوم والتنجستن والألمنيوم، مثبتة على بلورة من السيلكون، ويمكنها أن تولِّد جهداً كهربائياً عند حدوث اختلاف في درجة الحرارة بين طرفي هذه البلورة.
وبينت التجارب التي أجراها الباحثون، أن هذه المادة الجديدة فعالة جداً وقادرة على توفير الطاقة لأجهزة الاستشعار والمعالجات الرقمية الصغيرة من دون الحاجة لتوصيلها بالتيار الكهربائي أو ببطاريات تقليدية.
وحول هذه المادة يقول الباحث إرنست باور من المختبر المذكور: "إن هذه الطبقة الرقيقة لا يمكنها توليد كميات كبيرة من الطاقة، لكننا نتطلع إلى استخدامها لتوفير الطاقة الكهربائية لبعض التطبيقات الإلكترونية الصغيرة. فحالياً، ينمو الطلب العالمي على مولدات الطاقة صغيرة الحجم والقادرة على تشغيل وربط كثير من الأجهزة معاً في ما يعرف بإنترنت الأشياء، بحيث تتمكن تلك المستشعرات والتطبيقات الصغيرة من إنجاز عملها بتلقائية وأن تتفاعل آلياً وبشكل ديناميكي فيما بينها... فإذا كنت بحاجة إلى عدد كبير من المستشعرات في أحد المصانع، فلن تتمكن من توصيلها جميعاً بمصادر للطاقة لكي تعمل، ومن الأذكى أن تتمكن تلك المستشعرات من توليد الطاقة الخاصة بها باستخدام جهاز كهربائي حراري صغير".
سبائك النيتينول (Nitinol) التي تتكوَّن من النيكل والتيتانيوم، الذي يحوِّل حرارة المياه المهدرة إلى طاقة كهربائية
حرارة جسم الإنسان
يُعدُّ الجسم البشري مصدراً فعَّالاً لإنتاج الطاقة وحصادها بشتى أنواعها، حيث يتم توليدها باستمرار ونشرها في البيئة المحيطة، سواء أثناء الحركة أو السكون أو النوم، ويمكن لهذه الطاقة أن تكون حركية أو حرارية.
وقد صممت عدة أنظمة لحصاد الطاقة الميكانيكية من حركة الجسم لاستغلالها في شحن الهواتف النقالة والأجهزة اللوحية وغيرها من المعدات ذات الاستهلاك القليل من الطاقة.
وتعود فكرة استغلال جسم الإنسان لإنتاج الطاقة إلى عصور قديمة، عندما كان يتم رفع الماء من الآبار، وتحريك الصخور بواسطة بكرات وحبال يسحبها الإنسان. ثم تطوَّرت الفكرة إلى المولدات الكهربائية التي يتم تدويرها يدوياً لإنتاج تيار كهربائي صغير ينير مصباحاً كهربائياً صغيراً مثل تلك المولدات التي تربط على الدرَّاجات الهوائية، حيث يتم حصد الطاقة من الحركة التي يبذلها الجسم لإدارة العجلة، من دون تكريس جهدالإنسان نفسه خصيصاً لتوليد الطاقة.
وحديثاً استخدم باحثون في "مركز أبحاث مواد النانو والمواد الجزيئية" في ولاية نورث – كارولاينا الأمريكية تقنيات أنابيب الكربون النانوية لتوليد الطاقة الكهربائية من مولدات كهربائية صغيرة مدمجة في الملابس، تحوِّل حرارة الجسم إلى كهرباء ناتجة عن الفرق في درجات الحرارة بين الجسم ومحيطه.
من جانب آخر، تمكَّن الباحثون في "مختبرات سانديا الوطنية"، في أمريكا من تطوير جهاز دقيق يعمل بالأشعة تحت الحمراء ويحوّلها إلى طاقة كهربائية، بحيث يصبح مستقبلاً بديلاً عن أجهزة توليد الطاقة التي تعمل بالنظائر المشعة المستخدمة في رحلات الفضاء إلى الأماكن البعيدة، التي لا تحصل على كفايتها من ضوء الشمس اللازم لتشغيل الألواح الشمسية. وحصل الجهاز الكهروحراري الجديد على عدَّة براءات اختراع، وهو بالغ الصغر، وقد صنع من السيليكون والألمنيوم وثاني أكسيد السيلكون.
يبلغ سمك هذا الجهاز أقل من نصف سمك عملة معدنية صغيرة، ويعمل على التقاط الأشعة تحت الحمراء، بواسطة شرائط من الألمنيوم دقيقة جداً، ومن ثم ينقلها إلى طبقة رقيقة من ثاني أكسيد السيليكون حيث تتكوَّن ذبذبات كهربائية سريعة جداً تتسبب في اندفاع الإلكترونات بين الألمنيوم والسيلكون، مما يؤدي إلى توليد تيار كهربائي مستمر. والنماذج الأولى منه أنتجت 8 نانو واط من الطاقة الكهربائية، ويسعى الباحثون إلى زيادة قدرتها الإنتاجية عن طريق استخدام شرائط ثنائية الأبعاد لامتصاص الأشعة تحت الحمراء بدلاً من الشرائط الأحادية المستخدمة حالياً، مع إجراء تغييرات جوهرية في ترتيب الطبقات الداخلية في الجهاز.
ليس الهدف من هذه التقنيات والمواد أن تكون بديلاً عن مصادر الطاقة المعروفة حالياً. بل توفير بدائل لإنتاج الطاقة لتشغيل وشحن بعض الأجهزة الذكية المحمولة، التي أصبحت تلازم الإنسان حالياً، وبعض أجهزة الاستشعار المنتشرة في أماكن معينة ويصعب توصيلها. وكذلك يأمل الباحثون في أن يُستفاد من هذه التكنولوجيا في المستقبل القريب لتشغيل الأنظمة الطبية، خاصة أنظمة ضبط ضربات القلب التي يجب تبديل بطارياتها كل عدة سنوات.