لم يُغفل العلماء فيما كتبوه ما يجب على من يتعرض لتفسير كتاب الله من أمور نفسية، وشروط ثقافية فقد قدروا منزلة هذا الشارح، وعظم خطره وأوجبوا أن يكون على بصيرة باللغة العربية نحوًا وتركيبًا وبلاغة واشتقاقًا؛ لأن الوقوف على أسرار البيان العربي ذريعة إلى فهم كتاب الله..
وقد رأينا من المفسرين في زمن العجمة من حذق النحو والصرف ولم يفهم أسرار الأسلوب الأدبي؛ فعبر عن كلام الله بعبارات غامضة تحتاج إلى شرح ويحتاج الشرح إلى حاشية وتقرير..
وفيهم من جعل همه الاكتناز الشحيح في القول، حتى كأنه يقدم ألغازًا تتطلب الحل، وهذا العهد قد مضى إلى غير رجعة، ولكن ذوي البيان الساطع من المفسرين لا يزالون ممن يعدون على الأصابع..
والذين يحسبون شرح الآيات الكريمة لا يلتئم إلا في ظلال المصطلحات العلمية وقيود التعريفات الفنية يجهلون أن كتاب الله يخاطب العاطفة كما يخاطب العقل، وأن العاطفة لا تتوهج بالحرارة، ولا تنير بالضوء، ولا ترتوي بالعذب إلى إذا وجدت الأسلوب السمح، ذا الدلالة الكاشفة، والإمتاع السار، فعلى المفسر مع إحاطته بأسرار العربية نحوًا وصرفًا ولغة واشتقاقا وبلاغة أن يكون ذا تعبير فصيح!
واقرأ إن شئت تفسير الطبري، وتفسير الفخر الرازي، فإنك تطالع الصفحات المتعددة في تفسير الطبري دون جهد متوقف، على حين تقف وقفات حرجة أثناء قراءة التفسير عند الرازي، ولم تكن هذه الوقفات لأن فخر الدين الرازي قد انتحى الوجهة الفلسفية في مناقشة الآراء الكلامية فحسب، بل لأنه التزم بعبارات شحيحة قد لا تعطى المراد على نحو سافر في كثير من الأحيان..
والأصل في كلمة التفسير أن تكون إيضاحًا وتبيينًا، لا أن تكون غموضًا وإبهامًا، وأنا أثق أن بيان الله في وضوحه النير يكشف عن وجهه أكثر مما يكشف عنه ما كتب الكلاميون وأصحاب النظر الفلسفي.
واجب المفسر المعاصر أن يدرس- على نحو عام- علوم العصر دراسة المثقف لا المتخصص
وإذا كان الوقوف على أسباب النزول وأوجه القراءات، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وأدلة الأحكام وتطور معاني الألفاظ من جيل إلى جيل من واجبات المفسر؛ إذ إن ذلك مما يضيء مجال القول الصحيح أمامه..
فإن هذا الإلمام الواجب عليه يجب أن يستعمل في نطاقة المحدود لأن كتب التفسير كثيرًا ما تطيل في بيان هذه النواحي إطالة يضيع معها الغرض الأول من التفسير وهو إيضاح المراد على وجه ساطع، وليست المهارة حينئذ في حشد المعلومات وترداد النقول وتزاحم الآراء؛ لأن ذلك كله لا يقف عند حد. إن المهارة كل المهارة أن تخلص إلى اللباب في يسر قريب.
علم الموهبة:
ومن أجود ما قرأته لجلال الدين السيوطي حين تعرض في إسهاب إلى ما يجب على المفسر إدراكه من المعارف والعلوم، أنه تعرض إلى ما أسماه (علم الموهبة) وقال بصدده:
ولعلك تستشكل علم الموهبة، وتقول: هذا شيء ليس في قدرة الإنسان، وليس الأمر كما ظننت من الإشكال، والطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد، قال في البرهان: (اعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي، ولا تظهر له أسراره، وفي قلبه بدعة أو كبر أو هوى، أو حب دنيا، أو هو مصر على ذنب أو غير متحقق الإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو يعتمد على قول مفسر ليس عنده علم، أو راجع إلى معقوله، وهذه كلها حجب، وموانع بعضها آكد من بعض..
قلت: وفي هذا المعنى قوله تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (الأعراف: 146)، قال ابن عيينة: أنزع عنهم فهم القرآن، أخرجه ابن أبى حاتم.
وهذا الكلام يدل على أن عون الله في فهم كتابه لا يتأتى لغير المسلم الصادق، المؤمن بما يفسر، العامل بالأوامر المجتنب للنواهي؛ لأن امتثال شريعة الكتاب مما يهدى العقل إلى مشارق النور، فالمفسر في مقعده بين القلم والطرس عابد في محرابه يتأمل بدائع صنع الله..
وأحر به أن ينصرف عن شرور النفس فلا يتعلق بتافه الأعراض، ولا يخضع لنزوات الكبر والهوى والشموخ، ولا يصر على ذنب فعله ثم ذكر الله واستغفر لذنبه، كل ذلك مما يصقل روحه، وينير عقله فيتلقى النص الكريم وضيء الصفحة باهر الإشعاع.
ليست الموهبة هي القدرة على الفهم وحدها، وليست هي الذوق المتفطن لدقائق اللمحات، وبوارع الإيحاء، ولكنها مع ذلك تقوى المفسر، وتقديره مسئولية ما يتعرض له من تفسير، والذي يخاف مقام ربه ويقدر أنه ينطق عن وحيه، لا يمكن أن ينحرف في تأويل آية ليرضي هوى في نفسه، أو يشايع صاحب مذهب يدعو إليه، أو يستشعر تكبرًا واستعلاء على الناس لأنه صاحب علم وتفسير!
إن أمثال هؤلاء محجوبون عن هداية السماء، وقد وفق السيوطي حين استشهد في هذا المجال بقول الله عز وجل: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (الأعراف: 146).
وإذا كان العلم في تقدم مستمر؛ إذ جدت قضايا مهمة في علوم النفس والاجتماع والتاريخ، فإن واجب المفسر المعاصر أن يدرس- على نحو عام- علوم العصر دراسة المثقف لا المتخصص؛ لأن ذلك مما يساعده على إقناع من يصرفون وجوههم عن القرآن إلى بوارق فاتنة تضيء ثم تختفي، ولكنها تجذب الأغرار، وتطيل حولها اللجاج.
الجمعية الشرعية.