ظَاهِرَةُ التَّخْطِيءِ اللُّغَوِيِّ
أكلم العمانيين بالمصرية ويكلمونني بالعمانية؛ فلا أخطئهم -وإن أغربوا فأرابوا- ولا يخطئونني -وإن أغربت فأربت- ثم أكلمهم بالعمانية ويكلمونني بالمصرية؛ فأخطئهم -وإن قاربوا وآنسوا- ويخطئونني، وإن قاربت وآنست!
على حسب المراد يكون الوصف بالصواب أو الخطأ؛ فهما ضدان: فأما الصواب فإدراك المراد، وأما الخطأ فعدم إدراكه (ابن منظور: خ، ط، ء). لقد تبين للعمانيين حين أكلمهم بالمصرية أنني أريدها وأنها لهجتي وأنني فيها المصدر، وتبين لي حين يكلمونني بالعمانية أنهم يريدونها وأنها لهجتهم وأنهم فيها المصدر؛ فلم أخطئهم ولم يخطئوني، وهو مبدأ علمي عام؛ إذ "يتفق اللغويون اليوم على أن كل اللهجات متساوية، بمعنى أنه ليس لواحدة منها قواعد "أصح" من قواعد الأخرى"، (أونج: الشفاهية والكتابية، ص203). ولقد تبين للعمانيين حين أكلمهم بالعمانية فأشوبها بالمصرية، أني لم أرد المصرية، وأن ليست العمانية لهجتي، وأن لست فيها المصدر، وتبين لي حين يكلمونني بالمصرية فيشوبونها بالعمانية، أنهم لم يريدوا العمانية، وأن ليست المصرية لهجتهم وأن ليسوا فيها المصدر؛ فخطأتهم، وخطؤوني، وهو مبدأ مهمل على رغم أنه من العلمية بحيث يبدو عند التحقيق صياغة أخرى للمبدأ السابق.
ولو كتبت المصرية أو العمانية، وعمت المكتوبة مصر وعمان جميعا، لظهرت على غير المكتوبة، "وحينما توجد اللهجات المكتوبة، يفسر النحو والاستخدام [الصحيح] تفسيرا عاما بوصفهما نحوا للهجة المكتوبة نفسها ولاستخدامها، مع إقصاء النحو والاستخدام في اللهجات الأخرى. والأسس الحسية لمفهوم النظام نفسه هي إلى حد كبير أسس بصرية، ويشجع كون اللهجة مكتوبة أو بالأحرى مطبوعة، على خلع قوة معيارية خاصة عليها، تعمل على حفظ اللغة وفقا للنظام. ولكن عندما تظهر لهجات أخرى للغة ما بجانب اللهجة المكتوبة، متميزة في نحوها عن نحو هذه اللهجة المكتوبة، فلا يعني هذا أنها [تلحن]، بل يعني أنها تستخدم نحوا مختلفا؛ ذلك أن اللغة بنية، ومن المحال استخدام لغة دون قواعد" (أونج: الشفاهية والكتابية، 202-203). إن هذا ما كان من أمر اللهجات العربية القديمة، التي حظيت بالكتابة بعضها دون بعض، وبقيت غير مكتوبة في أهلها على حالها، ثم مر الزمان، وعملت سنَّتُه عملها؛ فنشأت بالمكتوبة اللغة المشتركة، ونشأت بغير المكتوبة اللهجات المختلفة (رمضان عبد التواب: فصول في فقه اللغة، ط2، 1404=1983، نشرة مكتبة الخانجي بالقاهرة ودار الرفاعي بالرياض، ص73، 84).
وإنه إذا لم يكن لحِجازيٍّ في الزمان الأول أن يخطِّئ تميميا ولا لتميمي أن يخطئ حجازيا؛ إذ كانا بمنزلة المصري والعماني في الزمان الآخِر- فقد صار لمن يتعلمون اللغة المشتركة ولا يلهجون بها، أن يخطِّئ بعضهم بعضا أو يصوِّبه، على حسب إدراكها أو عدمه؛ فقد صار تعلمها فيهم أشبه شيء بتعلم لغة أجنبية، "وهذا هو ما كان عليه الحال بفرنسا وإيطاليا ورومانيا وإسبانيا والبرتغال أيام أن كانت لغة الكتابة هي اللاتينية وكانت لهجاتها المحلية مقصورة على شؤون المحادثة، وما عليه الحال الآن تقريبا في مصر والسودان وبلاد العرب وشمال إفريقيا بصدد العلاقة بين لهجات المحادثة واللغة العربية الفصحى المتخذة لغة كتابة هذه البلاد. على أن ظاهرة كهذه لا تكاد تبدو إلا حيث تكون لغة المحادثة غير تامة التكون ولا كاملة النمو، ولا تبقى إلا ما بقيت لغة المحادثة على هذه الحال. فإذا ما بلغت هذه اللغة أشُدها تم تكوُّنها، واكتمل نموها، واتسع متنها، ووضحت دلالات مفرداتها ووجوه استخدامها، وتشعبت فيها فنون القول، ودقت مناحي التعبير، وقويت على تأدية حقائق الآداب والعلوم- أخذت تطارد لغة الكتابة وتسلبها وظائفها وظيفةً وظيفةً، حتى تجردها منها جميعا؛ فتصبح هي لغة الكتابة، وتقذف بلغة الكتابة القديمة في زوايا اللغات الميتة. وهذا هو ما انتهى إليه أمر اللاتينية مع لغات المحادثة بفرنسا وإيطاليا ورومانيا وإسبانيا والبرتغال" (وافي: علم اللغة، 251-252).
وهذه لغتنا العربية لغة حياتنا العقلية غير العادية، ولهجاتنا العربية لغة حياتنا اليومية العادية، لم تؤولا إلى مثل مآل تلك اللغة اللاتينية ولهجاتها، بل تكاملتا تكاملا طبيعيا لا اضطراب فيه، يستحق دون غيره التأمل والبحث.