مُثَلَّثَاتُ بَخِيتٍ
كتاب أحمد بخيت الشعري "الليالي الأربع"، 342 بيت عموديٍّ مَجْزوءٍ، وافِريٍّ إلا ثلاثةَ أبيات هَزَجِيَّات، في 114 قطعة مُثَلَّثَة (ذات ثلاثة أبيات)، مستقلة القافية، كل مثلثة منها موزعةُ كلماتِ الأبياتِ على أسطر صفحة كاملة من القطع الصغير، غيرُ معنونةٍ إلا برقمها في السلسلة، كهذه المثلثات السِّتِّ [1 (أول ما ذُكر فيها اسم ليلى)، و27 (فيها الأبيات الهَزَجِيَّات)، و61 (مثال ما قُفِّيَ من المثلثات بقافية متحركة)، و86 (فيها تعبير "حَكَّاءة العينين" الذي في الإهداء)، و94 (التي اختارها الشاعر لظهر غلاف كتابه)، و113 (آخِرة ما ذُكر فيها اسم ليلى)]، التي لن أُثبت من إملائها وضبطها إلا ما وجدتها عليه:
1
بغيرِ الماءِ
يا لَيلَى
تشيخُ
طفولةُ الإبريقْ
بغير خُطاكِ أنتِ
معي
يموتُ
جمالُ ألفِ طريقْ
بغيرِ سَمَاكِ
أجنِحَتِي
يجفُّ بريشِها
التحليقْ
27
لماذا لم نجدْ في الحبِّ
ما يكفي
من الغفرانْ؟
لماذا
لم نجد في الحزنِ
ما يكفي
من السُلَّوانْ؟ [هكذا، يريد: السُّلْوانْ]
لماذا ليس في الإنسان
ما يكفي
من الإنسانْ؟
61
أريكتنا التي سَكِرَتْ
بضحكتنا
معاً [هكذا، يريد: معًا]
تبكي
ولا تغفو معي
إلاَّ -هكذا، وصوابه: إلَّا-
إذا حدَّثتهُا [هكذا، يريد: حدَّثتُها]
عنكِ
فتحضنني
لعلَّ على قميصي
شَعْرةً
مِنْكِ!!
86
أُحِبُّكِ
تبهتُ الأيامُ
في عيني
وتتّضِحِينْ
وتقتربينَ..
تبتعدينَ
تبتعدينَ..
تقتربينْ
فيا حكَّاءَة العينينِ
-بَعْدِي-
ما الذي تَحْكِينْ؟!
94
لأقصَى الأرضِ
ثَمَّ خُطًى
تُسافرُ
في اتجاهِ خُطاكْ
يَدِي ممدودةٌ أَبَدًا
تِجَاهَ يَدٍ
هُناكَ
هُناكْ
فَيَا
ذاكَ البعيدُ
قريبةٌ
قُرْبَ الدموعِ
يداكْ
113
أمَا علّمتَني الأسماءَ؟
لَيلَى
أجملُ الأسماءْ
وأنقى
ضحكةٍ
في القلبِ
أتقى نهنهاتِ بكاءْ
وآخِرُ
فرصةٍ للأرضِ
كي تَجِدَ السماءَ
سماءْ
لا ريب في أثر أسلوب أحمد بخيت الإنشادي الحريص على تمييز بعض الكلمات المهمة المؤثرة وعلى تخفيف وطأة الوزن الواضح، في توزيع كلمات أبيات مثلثاته على أسطر صفحاتها. ولكن لا ريب عندي بعدما اختصَّ أحمد بخيت كلَّ مثلثة بصفحة، في حرصه على ملء فضاء الصفحة التي لو رَسَمَ فيها المثلثة كما نرسم الشعر العمودي، لخلا من الكتابة أربعة أخماس أسطُرها، الذي أفضى به أحيانا إلى الفصل بين ما لا ينفصل إلا بإفساد الوزن لا تخفيف وطأته، كما في فصله بين "يجفُّ بريشِها"، و"التحليقْ"، الذي ربما كان استنانًا بسنة محمود درويش الذي كان من عجائبه التي نبهت عليها بمقالي "كبير حسن، ولكن العربية أكبر وأحسن:
الوقفُ كثيرًا حيث لا وقفَ، والاضطرارُ إلى قطع ما يلي الوقف من همزات الوصل"!
في صفحة ما بعد غلاف "الليالي الأربع" كتابِ أحمد بخيت الشعريِّ:
"كُتب هذا النص
في الفترة بين 26-2-1966
إلى
00-00-0000".
ثم في التي بعدها:
"إلى
ج... ج...
حكاءة العينين [هكذا، يريد: الحكاءة العينين]
سري الأعظم
أحمد".
ثم في التي بعدها:
"فاتحة
"سأظلُّ أحلم دائما بذلك الفجر الأزرق الشفيف، وأنت نائمٌ على الأريكة، وأنا افتح [هكذا، يريد: أفتح] النوافذ، وأصغي للأذان وأقترب منك، وأصغي لصوت أنفاسك وأغفرُ من أجلك للعالم كلَّ ذنوبه".
لَيلَى".
لقد أراد هذه المثلثات نصا واحدا، يكون كتابَ عُمُرِهِ كُلِّهِ، ويتقدَّس ببركة استلهام القرآن الكريم كتاب المسلمين جميعا -[القرآن الكريم=الليالي الأربع (منعوت ونعت)]- فجعله في 114 مثلثة بعدد سور القرآن الكريم، ونبه عليه من أوله بالفاتحة التي جعلها من كلام صاحبته التي تصغي إلى الأذان وأنفاسه جميعا معا؛ فتحلم هي في نومه هو، بانبلاج الفجر الأزرق الشفيف، نعمةً تغفر بها للمذنبين ذنوبَهم!
114 قطعة مثلثة، تَمَثَّل في كلٍّ منها مثالُ بِنية الكلمة العربية الكاملة المعتدلة، التي تصعد من حرف وتطمئن على حرف وتهبط إلى حرف، نظمها أحمد بخيت سائحا في الأرض، كلما وقف على معنى من معاني الحب أو حال من أحوال المحبين، حفظه بها قبل أن يتفلت منه، ولو أن يكتبها على يده كما كان بعض شعراء العمانيين يفعل، أو على علبة كبريته كما كان بعض شعراء المصريين يفعل! ولا ريب لديّ في أنه تجمعت له مثلثات كثيرة جدا -وما زالت- وأنه لما ظهر له ذلك القصد الشريف اقتصر منها على 114، ثم أقبل يقدم منها ويؤخر، حتى يدل متلقيها على حركة العمر وتقلب الفصول.
ليال ناعمة أربع، قضاها هو وليلى التي ذكر اسمها الشريف 16 مرة، ثم بقي يتلدَّد عليها لياليه وأيامه كلها جميعا معا، بـ114 مثلثة، ليس أدل على كمالها من استلهام عدد سور القرآن الكريم، ولا أجمع لها في نظام الشعر من البحر الواحد (الوافر) -وإن اختلفت قوافيها اختلافَ الليالي والأيام- فإن تكن المثلثة 27 المذكورة آنفا، قد تخرجت من الهزج (ددن دن دن=مفاعيلن...)، لا الوافر (ددن دددن=مفاعلَتن...)، فإن الـ113 مثلثة (99.12%)، التي تخرَّجت من الوافر، لَأَدْعَى إلى تخريج هذه المثلثة الـ27 نفسها، من بحر الوافر المعصوب التفعيلات (ددن دن دن=مُفَاعَلْتُنْ)!
ليالٍ كليالي السَّلِيم، وأيامٌ كأيام المَدِين، لبست لها المثلثاتُ لَبوسَها؛ فغلب على قوافيها التسكين والإرداف بالمد، لتخرج عويلا من العويل :
- ـرِيقْ، ـرِيقْ، ـلِيقْ،
- ـرَانْ، ـوَانْ، ـسَانْ،
- ـحِينْ، ـبِينْ، ـكِينْ،
- ـطَاكْ، ـنَاكْ، ـدَاكْ،
- ـمَاءْ، ـكَاءْ، ـمَاءْ!
عويلا من العويل سال كتابُ عُمُر أحمد بخيت، ليكون دستور حياة العشاق، يأخذ من أغنيائهم لفقرائهم، ضحكا ببكاء، ولقاء بفراق، ووصالا بهجران، وإيمانا بكفران!