من لغة الطبيعة المشتركة بين البشر إلى حلقات النار والمعابد .. كيف أصبحت الموسيقى جزءاً من الطقوس الروحية ؟
تنبعث الموسيقى في كل ما حولنا، في روح الطبيعة وفي روح الإنسان أيضاً، لتكون بذلك ظاهرةً كونيةً عظيمة قادرة على أن تخاطب الإنسان وتصل لأعمق مكنوناته؛ فمنذ نشأة الإنسان على وجه الأرض شعر بحاجته للموسيقى فما كان إلا أن استمع إلى أصواتها في الطبيعة من حوله وبدأ بتقليدها، فضرب على الأشياء من حوله أو على أجزاء من جسده ليصدر تلك الأصوات؛ فالموسيقى متجذرة في أصل الطبيعة، تطورت مع تطور الإنسان الحضاري وتنقلت مع تنقلاته الفكرية، فتداخلت مع تاريخه وهويته ومع أساطيره وعقائده، لتكون ملازمة له وللوجود الكوني منذ الأزل.
وُجدت العديد من أشكال الموسيقى والتي كان لها معانٍ ذات ارتباطات روحانية. إيقاعات وألحان ونغمات مرتبطة بطقوس دينية وعقائدية، ويعتقد بعض الباحثين بأن الإنسان بدأ يعرف الموسيقى بوضوح منذ 9000 قبل الميلاد، حين أصبح قادراً على أن يميز بين الأصوات من حوله ويميز أصوات الغناء عن الصراخ عن صوت الآلات، فاكتشف هذه الأصوات واهتم بها قبل أن يعرف اللغة واعتبرها لغته الأولى وطريقته للتواصل، وعُدت هذه الأصوات هي الجذور الأولى للموسيقى.
من حلقات النار كانت البداية
بدأ تاريخ الموسيقى الدينية منذ أن كان الإنسان القديم يرقص حول النار أثناء احتفالاته ومنذ كان يؤدي بعض الأصوات والتي تشبه صوت المطر على الطبول ليستجدي بذلك هطوله.
كانت الأديان عامة قد اعتمدت على الموسيقى وما يشملها من غناء وعزف ورقص كوسيلة لتصل إلى أعماق الإنسان وتسهم في التأثير الروحي به، فحين أدرك الإنسان هذا الدور الوجداني للموسيقى في النفس البشرية بدأ باستخدامها لأغراض عدة كالحث على العمل أو الحرب وكذلك لقدرتها على إثارة مشاعر الحماسة والسرور؛ فتكاد لا تخلو ديانة، سماوية كانت أو وضعية من الموسيقى الدينية الخاصة بها، لتكون بذلك قادرة على جذب العواطف ومخاطبة الأرواح والسمو بها.
في صُلب ميتافيزيقيا الأديان
من ذلك أن كثيراً من الأديان في الهند تملك نوعاً معيناً من الموسيقى والأنغام والتي يؤمن أتباعها بأنها ستساعدهم للوصول للإله والالتحام به، فالموسيقى والآلهة كلاهما وجداني وروحي، والطريق إلى الإله لا يمكن أن ينفصل عن الآخر. وفي الديانة المسيحية تعد الموسيقى عاملاً هاماً في الطقوس والاحتفالات، فتُستخدم الموسيقى التي تساعد المستمع لها على الشعور بآلام المسيح وعذاباته، ليعيش بعاطفته تلك الآلام ويمتزج بها.
لم يُستثنى الإسلام من ذلك أيضاً فتتخلل شعائر الشيعة من المسلمين الموسيقى والألحان الحزينة والتي تدفعهم للشعور العميق بآلام الحسين وإثارة المشاعر الذاتية بمعاناته وأحزانه.
وفي السابق كانت الحضارات الأولى كالسومرية والبابلية قد خلفتا تاريخاً موسيقياً مرموقاً باستعمالهما لآلات موسيقية متقدمة أثناء الاحتفالات الدينية في طقوس العبادة لآلهة الشمس والخصوبة، وهو ما وُرثّ للحضارة المصرية الفرعونية والتي بدورها أثرت على التاريخ الموسيقي لحضارات أخرى كحضارة اليونان والذين بدورهم استعملوها وطوروا منها في طقوسهم وعباداتهم، فكان اليوناني يتقرب للآلهة بالشعر والموسيقى والمسرح. وخلال هذا التاريخ الحضاري الموسيقي الديني الطويل وُجدت العديد من الآلهة والتي عُدت آلهة للموسيقى والرقص كإيزيس وأبوللو وهاتور وغيرها. وكل هذا يظهر الأهمية الميتافيزيقية للموسيقى منذ قديم الحضارات واتصالها الوثيق بعالم اللاهوت.
ولم يقتصر الاهتمام الديني بالموسيقى على هذه الحضارات فقط، ولكنها كانت تملك ذات الأهمية في حضارات جنوب شبه الجزيرة العربية أيضاً ولدى الإنسان العربي القديم، والذي ظهر بوضوح في نقوش وآثار حضارات اليمن القديم، فقد ظهر استخدامهم لعدد من الآلات واهتمامهم بالموسيقى أثناء عباداتهم للآلهة والأصنام، وأثناء ممارستهم السحر أيضاً.
الموسيقى في اليهودية والمسيحية
لم يكن لليهود من موسيقى خاصة بهم، فقد كان لانتشارهم الواسع أن اقتبسوا أنواعاً من الموسيقى عن المجتمعات والشعوب التي انخرطوا بها فتغيرت موسيقاهم من جماعة يهودية إلى أخرى ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى، فاقتبس العبرانيون الكثير من التراث الموسيقي البابلي والكنعاني والمصري والهيليني، فتكونت لديهم تقاليد وثقافة موسيقية عديدة ومتغيرة لكنها تطورت عند اتحاد هذه القبائل العبرانية، وتجذر الفعل الموسيقي في الديانة اليهودية بوضوح في العهد القديم، والذي يحوي إشارات عن استخدام الموسيقى في الطقوس والعبادات اليهودية، وأهميتها في الوصول إلى الله ومناجاته، وتوضح عدد من النصوص في سفر التكوين وسفر الخروج ترانيم اليهود والدور الطقسي الذي يتصاحب فيه الغناء بالعزف على الطبول، فقد احتلت الموسيقى مكانة مهمة في الهيكل وكان يضطلع بها اللاويون، فتجمع بين الغناء والعزف على الآلات، وبعد هدم الهيكل بدأ ظهور الموسيقى الدينية التي ترتل وتنشد في المعابد اليهودية.
كما كان للحضارة الأندلسية دور في التأثير الموسيقي باليهود، ففي القرن العاشر استخدموا الأوزان والمقامات والألحان العربية في ترتيل وإنشاد الترانيم والمزامير في المعابد اليهودية في العراق وسوريا والمغرب، كما استخدم اليهود الشرقيون السلم الموسيقي العربي في أغانيهم، وهذا ما يؤكد لنا تغير موسيقى اليهود الذي كانوا يتبنوها في معابدهم وذلك تبعاً للفترة التي يعيشون بها ولطبيعة المجتمع الذي يعايشونه.
وفي المسيحية كانت التجربة الموسيقية الدينية خاصتهم مختلفة عن اليهودية، وبما أن المسيحية عامة كانت بالأساس قد جاءت لتصلح من اليهودية، ففي المسيحية لم يكن هنالك من قيود شديدة بما يخص موضوع الموسيقى، فامتلأت الكنائس بجميع أنواع الآلات الموسيقية، بعكس اليهودية والتي خضعت لبعض من التراجع الموسيقي في بعض الفترات بفعل بعض من أحبار اليهود ولوجود بعض النصوص في العهد القديم والذي توضح بأن الموسيقى فعل لا أخلاقي يجلب الشر. لكن المسيحية وبرغم وجود عدد قليل فقط من النصوص التي تتحدث عن الموسيقى في الكتاب المقدس، إلا أن الموسيقى في المسيحية لم تخضع لتحفظات رجال الدين ووجهات نظراتهم.
كانت موسيقاهم أو ما تسمى بالموسيقى الكنسية تملأ الكنائس المسيحية بشتى أنواع الأناشيد والتراتيل، فظهر الغناء “الجريجوري” والذي يعد أقدم أنواع الموسيقى الكنسية وأشهر تراتيله “هاليلويا” فاعتبرت الكنيسة الموسيقى هامة لما لها من دور أساسي في تمجيد الله وتنوير المؤمنين، ولتحقيق الفرحة، وتعميق الشعور الروحاني لدى المؤمن أثناء العبادة.
الموسيقى في الإسلام
اقتصرت الموسيقى الإسلامية على ظهور ضعيف في العهدين النبوي والراشدي وتطورت على شكل إنشاد ديني في إطار ظاهرة التصوف والذي غالباً ما كان هو المسيطر على جانب الفن والموسيقى في الإسلام، وكانت أنواع الفنون الإسلامية محصورة وقليلة كفن “الملحون” والذي يعد رائداً في فنون الموسيقى الدينية الإسلامية، وذلك لتميزه بتأثيره الروحي على المتلقين وبسبب موضوعاته وألحانه.
كان الدين الإسلامي مختلفاً عن غيره من الأديان وذلك لوجود عددٍ من فقهائه وعلمائه ممن كانوا يعارضون مفهوم الموسيقى عامة ويعتبرونها مخالفة للتعاليم للدينية، لكن لا توجد أي نصوص دينية إسلامية تؤيد هذا الاعتقاد، كما أن عدم احتواء العبادات الإسلامية لموسيقى خلالها لم يجعل للإسلام من موسيقى دينية معينة تخصه بالمعنى المعروف للموسيقى، واقتصر الأمر على المديح والتجويد والترتيل كأمور اعتمدت على التلحين واستخدام المقامات الصوتية والتلحين الصوتي، وذاك لتميز القرآن وخاصة السور المكية منه بالقوافي الرنانة والتي تضفي لحناً يستحسنه المستمع عند تلاوته وتوقع تأثيراً أقوى على النفوس في تدبره، وهذا ما جعل من قراءة القرآن تجويداً وتنغيماً ووضع المقامات واللُحن الصوتية فيه أمراً هاماً جداً لدى المسلمين، كونها أكثر تأثيراً في الروح وأقوى وصولاً للمستمع.
كما وقد ظهر الاستخدام لعددٍ من الآلات الموسيقية في الاحتفالات الدينية لدى المسلمين كالدفوف والطبل والشاهين والقربال وغيرها ووجدت بعض التجليات الغنائية والموسيقية والمسرحية في صدر الإسلام وفي عدة مناسبات كالأعياد ومواسم الحج وفي مناسبات أخرى كاحتفالات المولد النبوي والإسراء والمعراج، واحتفالات عاشوراء. وفي احتفال عاشوراء هذا يعتمد المسلمون فيه على أسلوب مسرحي جماهيري بموسيقى وألحان دينية قادرة على إنزال أشد الأثر في النفوس والذي يعاد فيه بأشكال مختلفة إحياء ذكرى آلام الحسين واستشهاده. ولهذه الاحتفالات تأثراً كبيراً بالموسيقى الفارسية وذلك ما أوضحه الأصفهاني في كتابه “الأغاني” والذي نقل به فنون الموسيقى والشعر والرقص الفارسية. ولهذا كان الفن الموسيقي واضحاً ومميزاً لدى المسلمين الشيعة والمتصوفة، لكنه كان أكثر تحفظاً لدى متبعي المذهب السني.
التصوف الإسلامي والموسيقى
كانت ظاهرة التصوف في الإسلام هي الشكل الأسمى الذي حافظ على الموسيقى عبر العصور، بل واعتبرها أداة أساسية في منهجه، فالمتصوفة يرون أن التصوف والموسيقى هما شيء واحد فكلاهما يغوصان في عالم الوجدان، وارتباط التصوف بالموسيقى تاريخها طويل ولا يقتصر على التصوف الإسلامي فقط ولكنها تواجدت منذ وجد التصوف اليوناني، فاعتبرها المتصوفة مهمة في مساعدتهم على الوصول للنشوة الدينية أثناء طقوس العبادة، وكان الانطلاق الأكبر للتصوف الإسلامي من بغداد لما كان للعراق القديم من ديانات وعقائد كثيرة ذات أصول غنوصية صوفية، فكانوا بدورهم قد اعتبروا الرقص والموسيقى وسيلتيهما للانسجام الروحي الوجداني، وتنقية روح الإنسان ومساعدته على أن يسمو بنفسه، والارتقاء بها لعالم أرقى وأصفى وأنقى.
ويظهر كل هذا بوضوح في مظاهر الصوفيين واحتفالاتهم، بقلنسواتهم وتنانيرهم البيضاء وارتفاعها أثناء دورانهم، فيعتبرون أن للموسيقى والرقص دوراناً قدرة على أن تجعل الإنسان يتماهى جسدياً ويغيب عن حاضره ويعيش عالماً روحياً يقوده إلى الله ويفصله عن الدنيا وما فيها. وكان هذا الأداء هو ما اعتمده جلال الدين الرومي وما انتشر في العالم الإسلامي تحت مسمى “الفرق الصوفية المولوية”.
كان الرقص والدوران والموسيقى في التصوف الإسلامي مستوحى من تاريخ شعوب سابقة فجاء جلال الدين الرومي ليطوعها لتتناسب مع الإسلام ليخرج التصوف الإسلامي بصورته هذه.
ويعتبر البعض الموسيقى الصوفية الإسلامية هي آخر ما أنتجه تطور الموسيقى الدينية في منطقة الشرق الإسلامي، تطور نتج عن تأثر تاريخي طويل بين التراث الدمشقي والأندلسي والمولوي حتى تأثيرات الموسيقى السومرية واليونانية والعربية، لينشأ عن كل هذا الفن الصوفي الإسلامي الجديد، فكان تطوره ناتجاً عن اعتباره فناً مقبولاً وحصوله على الدعم من الخلفاء والولاة.
وما يثير الاهتمام هو أن تطور الموسيقى العربية في بدايات القرن العشرين كان نتاجاً عن الموسيقى الصوفية الإسلامية وتأثر روادها بها فكل من السيد درويش ومحمد عبد الوهاب حتى أم كلثوم وصباح فخري كانوا جميعهم قارئي قرآن ودارسين في المدارس الصوفية وينشدون النشيد “الغناء” الصوفي، قبل تحولهم وإنتاجهم نوعاً جديداً من الموسيقى؛ فيعود جزء من الفضل لتطور حركة الفن الموسيقي العربي الحديث للموسيقى الدينية الصوفية.
في كل هذا يتمثل جمال الموسيقى وقوة تأثيرها، تخللت اليهودية والمسيحية والإسلام حتى الزرادشتية والبوذية والهندوسية، تبنتها الأديان طوال تاريخها، وذاك لما لها من قدرة على الدخول إلى بواطن الإنسان والامتزاج بمشاعره وأحاسيسه، في سعاداته وانشراحاته وفي أحزانه وآلامه، لتربطه بالطبيعة والكون وبالحياة والموت. ولتوصله للإله فالوصول للإله دائماً ما يرتبط بالجمال.
لمياء أمين - اراجيك