بالصور...قصة قديمة تكشف طقوس "كليجة العيد" في العراق
كسر الشاب العراقي مصطفى يوسف، أحد الأعراف، وشارك في مراسم صنع كليجة العيد، بلف "الحلقوم الزهري" بقطع عجينة طرية مكورة بكفين من حنان أمه، وسط غرفة تغمرها البساطة، تحت مروحة ترقص بعيدا عن الحر.
وشارك مصطفى، وهو صحفي من العاصمة العراقية بغداد، في الـ24 من عمره، متابعي صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" — صورا لمرحلة "لف الكليجة" مع أمه وسط كهرباء المولد الذي لا يشغل من التبريد والتكييف شيء سوى الأضواء الشاحبة، والمراوح البطيئة.
وتحدث مصطفى، لمراسلتنا، قائلا
— دخلت للبيت، وجدت أمي مع شقيقاتي يعملن على صنع الكليجة، أبعدت شقيقاتي وجلست مكانهن لكي أنجز العمل، وأنا سريع بـ"اللف" مستخدما القالب الجاهز المخصص لها.
ويقول مصطفى وسط "بطانية" وردية مشطبة بلون البيج — بعز الحر تظهر منها أغلب ساقه، "في كل سنة، أنا أعمل الكليجة مع أمي، وعملت على حشوها "بالحلقوم" لهذا العيد"..بالرغم من انقطاع التيار الكهربائي، واعتمدنا المولدة المنزلية التي منحتنا تشغيل المروحة السقفية فقط".
وأنجز مصطفى العمل، حتى أخر "كرية" من عجين الكليجة المختمرة في قلب وعاء أزرق، بعدما شكلتها أمه براحتي يديها على شكل كرات صغيرة ملأت بها "صينية"، في يوم "عرفات" التاسع من شهر ذي الحجة، الذي فيه يقف الحجاج على جبل عرفة في السعودية — أهم أركان الحج.
لكن قطع الكليجة بشكل "الضفيرة المائلة على جنب" تبرع بها النساء العراقيات الكبيرات في السن عن خبرة متراكمة من الأعياد وبالذات عيدي الفطر والأضحى.
العيد بلا إرهاب
عادت العائلات الموصلية بعد تحرر مدينتها ومحافظة نينوى بالكامل من خلافة وبطش "داعش" الإرهابي، لعمل الكليجة لهذا العيد — ويشهد الجميع على لذة طبخ ومعجنات الموصليات وهن بارعات في أصعب الأكلات العراقية، ولديهن لمسة خاصة لا ينافسهن بها أحد.
لا يكتمل العيد إلا بعمل الكليجة.. في مدينتي الموصل تتسم هذه الحلوى بأن لها مراسيم وطقوس خاصة… فالعجينة التي تصنع منها لا تقوم بعجنها إلا أكبرنا سنا في البيت، هي صاحبة الخبرة والدراية الكاملة بمقاديرها..هذا ما تحدثت به الفتاة الموصلية ولاء لنا،
وأخذتنا إلى ما بين الأحياء القديمة والشعبية في الموصل، حيث نرى نساء الحي يتجمعن في بيت الجيران لمساعدتهم في عمل الكليجة،…صنعها يتطلب وقتاً من أربع إلى ست ساعات أحيانا حسب الكمية المعجونة.
وأوضحت لنا ولاء، العمل على الكليجة في مدينتها الموصل التي أعلنت القوات تحريرها بالكامل من وحشية "داعش" الإرهابي في العاشر من يوليو/تموز الماضي، بأنه ينقسم إلى تقطيع العجينة — قطع صغيرة ثم حشوها بالجوز ومبشور جوز الهند والسمسم والحلقوم والفستق الحلبي والتمر.
— نطلق على نوع الكليجة المحشوة بالتمر بـ(البهية)، وطريقة إعدادها تختلف عن بقية الأنواع، وبعد أن يتم إكمال العمل ترص القطع المحشوة في الصواني الخاصة بالشواء، وتدهن وجوهها بالبيض المخفوق لإضفاء اللمعة ومنح ملامحها اللون الذهبي الجميل.
اكتشاف الكليجة
وتطرقت ولاء، إلى ما وصلها من جدتها من قصة روتها لها، هي:
يحكى قديما أن امرأة "بطرانة" كانت قد أتمت جميع استعداداتها لاستقبال العيد وصنعت من المعجنات والحلويات أشكالا… إلا إنها لم تكتف بذلك وخافت أن لا يكون ما صنعت يكفي من يزورها… فدعت جيرانها من النساء وطلبت منهن صنع نوع جديد من الحلوى غير مألوف… فاكتشفن الكليجة… التي مرت بمراحل تطور عديدة حتى وصلت إلى شكلها الحالي.
وتستغل النساء وقتهن خلال فترة إعداد الكليجة، بتجاذب أطراف الحديث والسمر وترى الضحكة والابتسامة تعلو محياهم..ويتبادلن الحديث عن مشاكلهن في أحيان أخرى، هي ليست حلوى فحسب بل مناسبة اجتماعية بحتة تجد النسوة فيها محتفلات مجتمعات يتساعدن فيما بينهن ولا يشعرن بطول وقت أو تعب.
كليجة العيد
في الوقت الصعب
أم محمد من قضاء القائم "الواقع تحت سيطرة "داعش" الإرهابي في غربي الأنبار، غرب العراق"، وهي نازحة مع عائلتها، سكنت في الجنوب، وعادت إلى هيت قبل شهور قليلة، قالت لنا، إنا واظبت على عمل "الكليجة" حتى في 2014 السنة التي استولى فيها الدواعش على مدينتها ومساحات واسعة من البلاد.
وغيرها الكثير من العائلات النازحة من محافظات نينوى، وصلاح الدين، والأنبار، شمال البلاد وغربا ً، حتى في أشد أيامها لم تتخل عن صنع الكليجة في الأعياد، والاكتفاء بتقدميها للأطفال والتمتع بالفرح بعيونهم واستذكار أجواء العيد في مناطقهم التي تتنفس الصعداء حاليا ً من الأعمار وعودة الحياة إليها مرة أخرى.
وهناك عائلات تصنع الكليجة لأول مرة بهذا العيد، في مدنها المحررة من سطوة "داعش"، بعد أن عادت إلى منازلها ورممتها ونظفتها من كل أثار الإرهاب وخرابه، عدا أقضية أعالي الفرات العراقية في غرب البلاد بمحاذاة سوريا، وهي عانة وراوة والقائم والتي تشهد حاليا ً شحة وأزمة في المواد الغذائية إثر التنظيم الإرهابي المسيطر عليها منذ عام 2014.
أمي وهي تعمل قطع تسمى عراقيا ً بـ"أم الضفيرة" بسبب طي حافتها على شكل ضفائر الشعر، وكأنها تحيكها حياكة بأصابعها بمنتهى السرعة والدقة، وضعت بداخلها حبات من "الجوز" الطازج غير الممزوج بالسكر، عملتها خصيصا ً لأبي كونه يعاني من داء السكري.
وقبل يومين تسوقت أمي من السوق الشعبي القريب علينا، ثلاثة أكياس من الطحين الفاخر، يزن الواحد منها كيلو، والهيل، وأكياس أخرى من الجوز، مبروش جوز الهند، والسمسم، مع علبتين واحدة مربعة من الكارتون بداخلها حلقوم طري بلون وردي شفاف وهادئ مشبع بالنشا، والثانية سمن ذو رائحة تأسر القلب.
وتختلف طرق عمل الكليجة بين بيت وأخر، ولكن لا يختلف اثنان على أن النساء هي من تعملها وتبرع بها، بينهن من تضع الزبدة بدال السمن، وأخريات يعملنها بطعم حلو، وغيرهن العكس يرين من اللازم أن تكون العجينة بطعم أقرب للمالح المتوسط لتكسره حلاوة الحشوات وعلى رأسها التمر الخستاوي الشهير الملائم للمعجنات عن غيره، بسبب تمراته اللينة سهلة القلي والعجن.
تجتمع النساء الأم وبناتها والكنات "زوجات الأبناء"، حول "صواني" الكليجة، لانجازها قبل يوم أو يومين من العيد، ويجتمعن بالرأي باعتبار أن "الكليجة" هي علامة العيد وبدونها لا يعتبر عيدا ً..تقدم للضيوف المعيدين، ساخنة مع "استكانات" أقداح الشاي العراقي المعروف بغليه مع عدة حبات هيل.