رقابة أمير المؤمنين علي لحكامه
الْحَمْدُ لِلَّه كُلَّمَا وَقَبَ لَيْلٌ وغَسَقَ، والْحَمْدُ لِلَّه كُلَّمَا لَاحَ نَجْمٌ وخَفَقَ، والْحَمْدُ لِلَّه غَيْرَ مَفْقُودِ الإِنْعَامِ ولَا مُكَافَإِ الإِفْضَالِ . . .
أما بعد . . .
فإنَّ على الوالي العادل أن يراقب حكامه على أبسط الأمور، لأن السكوت على الهفوات الصغيرة قد تفتح بابًا الى التمادي، ولذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يحاسب المقربين والحكام العادلين على أقل الهفوات، وكان يعاتبهم على بعض ما غفلوا عنه كي ينبههم الى ذلك، ومن الشواهد العلوية التي تبين عظيم قدره (عليه السلام) ومدى حرصه على المساوات بين الناس والاهتمام بهم وبمشاعرهم ما ورد في كتابه لابن حنيف، ذلك لما سمع انه دُعي إلى وليمةٍ فمضى لها فبعث له بكتاب يعاتبه على ذلك قال فيه: (أَمَّا بَعْدُ يَا ابْنَ حُنَيْفٍ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا، تُسْتَطَابُ لَكَ الأَلْوَانُ وتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ، ومَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ، عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ، فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُه مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَه عَلَيْكَ عِلْمُه فَالْفِظْه، ومَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِه فَنَلْ مِنْه)[1].
قد يسأل سائل لماذا انتفض الامام على هذه الحالة وقد أحل الله للناس أكل الطيبات؟
نقول: هنالك أسباب كثيرة دعت الامام (عليه السلام) أن يعاتب ابن حنيف منها:
أولاً: إن هذا الصحابي الجليل يمثل الإمام (عليه السلام) في حكومته ولذا كان عليه أن يقتدي بإمامه، وان كان الوصول الى أمير المؤمنين (عليه السلام) شيء مستحيل، ولكن بقدر المستطاع، وهذا ما بينه الإمام لابن حنيف إذ قال في تكملة كلامه (أَلَا وإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاه بِطِمْرَيْه، ومِنْ طُعْمِه بِقُرْصَيْه، أَلَا وإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، ولَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ واجْتِهَادٍ وعِفَّةٍ وسَدَادٍ)[2]، فهذا هو مراد الإمام ان يكون الوالي ورعًا عفيفًا رشيدًا .
عن الأسود وعلقمة قالا: دخلنا على أمير المؤمنين (عليه السلام) وبين يديه طبق من خوص، عليه قرص أو قرصان من شعير، وإن أسطار النخالة لتبين في الخبز، وهو يكسر على ركبتيه ويأكل بملح جريش، فقلنا لجارية له سوداء اسمها فضّة: ألا نخلت هذا الدقيق لأمير المؤمنين (عليه السلام)؟ فقالت: أيأكل هو المهنَّا ويكون الوزر في عنقي؟ فتبسَّم (عليه السلام) وقال: أنا أمرتها ألاَّ تنخله، قلنا: ولِمَ يا أمير المؤمنين؟ قال: ذلك لأجدر أن تذلَّ النفس ويقتدي بي المؤمن وألحق بأصحابي[3].
ثانياً: إن مثل هذه الهفوات تترتب عليها أمور كثيرة، إذ تترك أثرًا كبيرًا في نفوس الفقراء والمحتاجين، ولذا كان أمير المؤمنين حريصًا على مشاعر الناس، وأن لا يزهق الفقير لأنَّ الفقر الموت الأكبر[4]، فحينما تسمع الرعية أنَّ أميرهم يأكل خبز الشعير والملح، وينام من دون وسادة لا شك أنَّهم سيقتدون ب،ه ولا يجزعوا من حالهم، يقول الإمام: (أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ، هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِه الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ، فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ، كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا)، فالذي ينشغل بالأطعمة ويترك الرعية يكون كالبهيمة التي همها علفها، هذا وصف الإمام للحاكم الذي همه بطنه.
ثالثاً: يجب على الوالي أن يكون فطنًا مع الناس، فبعضهم يتقرب الى الوالي وغرضه في ذلك المصلحة الشخصية كي يسهل له بعض الأمور، يقول الشارح البحراني: (وجه الخطأ في إجابة داعي هؤلاء أنَّ تخصيصهم الأغنياء دون الفقراء بالكرامة، والدعوة دليل واضح على أنَّهم إنَّما يريدون بذلك الدنيا والسمعة والرئاء دون وجه اللَّه تعالى، ومن كان كذلك فإجابته موافقة له على ذلك ورضى بفعله، وذلك خطأ كبير خصوصًا من أمراء الدين المتمكَّنين من إنكار المنكرات... وأمره أن يحترز فيما يتّفق له أن يقع فيه من ذلك بالنظر إلى ما يحضر من الطعام، فما وجد فيه شبهة حرام ولم يحقِّق حاله فليتركه، وما تيقَّن حاله وطيب وجه اكتسابه ببراءة عن الشبهة فينال منه، وكنّى عنه بالمقضم تحقيرا له وتقليلا، ويفهم منه بحسب التأديب الأوّل أنّ التنزّه عن هذا المباح أفضل له من تناوله)([5]) .
والخلاصة: على الحاكم أن يكون ورعًا فطنًا لا يغفل عن حقِّ الرعية، هذا ما بينه الإمام علي (عليه السلام) لابن حنيف رضوان الله تعالى عليه.
علما أن هذه الرسالة لم تكن خاصة لان حنيف، وإنَّما هي رسالة لجميع من له سلطة على الناس ومنهم ابن حنيف على علوِّ منزلته وقيمته، وهو الشاهد له رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) بالإخلاص والورع .