حكم الإمام علي (عليه السلام) تؤسس لأدب الحكمة في النثر العربي
أثر نهج البلاغة في اللغة والادب
عندما أطلق أمير الشعراء حُكم قيمة عن الشعر العربي ذهب مثلاً، كان يضع للحكمة مكاناً راسخاً في منهج تقييم جودة هذا الشعر.
والشعر إن لم يكن ذكرى وعاطفة ********** أو حكمة فهو تقطيع وأوزان
هذا عن ديوان العرب (الشعر)، أما النثر فلم يكن قد رسّخ أقدامه بعد، ولكن الكتابة النثرية ـ على الرغم من ذلك ـ كانت قد وصلت إلى ذروة سامقة في التعبير، من خلال القرآن الكريم، والسنّة النبوية، و(نهج البلاغة) للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد أجمع النقّاد بعد قرن من الزمن أو يزيد على بدء النهضة الإسلامية، على أن تلك النصوص لا يملك أحد مجاراتها، لهذا وضعت في مرتبة القداسة، وحافظ الشعر من جديد على كونه المعبّر الوحيد عن الديوان العربي والحضارة العربية.
والنثر العربي بدأ تدوينه متأخراً مئة وخمسين عاماً (عيده الذهبي عام 143 هـ) وبدأ عصر الترجمة مقارباً لتلك السنة في ذروة صعود الحضارة العربية في زمن الرشيد والمأمون، وانطلق الإبداع النثري، خاصة في الكتابة التاريخية، بعد ذلك ليسجل المؤرخون ظهور كتاب لمؤلف مجهول هو سيف بن عمر عنوانه (الفتوحات الكبرى والردّة)، وهو ما اعتمد عليه الطبري (شيخ المؤرخين العرب) في تمحيص المرحلة المبكرة لتاريخ الإسلام، علماً أن باحثين كثر اعتبروه بمنزلة رواية تاريخية حفلت بالكثير مما أبدعه خيال المؤلف.
يعتبر كتاب (الفهرست) لابن النديم، محمد بن يعقوب بن إسحاق (توفي 380 هـ) من بواكير المؤلفات التي سعت إلى حصر كتب النثر العربي حتى زمنه، ونكتشف أن كثيراً منها فقد من المكتبة العربية، ما يعزونه إلى الغزو المغولي وتدمير الخلافة العباسية والمكتبات الكبرى في بغداد، حتى روي أن نهر دجلة تحول لون مائه إلى السواد لكثرة ما ألقي فيه من كتب.
والملفت للنظر هنا أن كتاب (نهج البلاغة) الذي جمعه الشريف الرضي، كمختارات من أرقى فنون النثر العربي، تأخر جمعه ما يقارب القرنين من الزمن عن بدء عصر التدوين (توفي الرضي عام 406 هـ)، وأسباب ذلك مشهورة، بما في ذلك أن ضريح صاحب الكتاب، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لم يعرف إلاّ في العام 140 هـ، عندما كشف عنه الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، بطلب من الخليفة العباسي المنصور. ولأن كتاب (نهج البلاغة) يمتلك الريادة في تأسيس فن الحكمة كمنهج في النثر العربي، يمكن لنا اعتبار الجزء الخاص فيه بالحكمة، أهم مرجع لتحديد بداية هذا النوع من النثر العربي، الذي احتل مكاناً سامقاً في الأدب عند من جاؤوا بعده كأبي حيان التوحيدي وابن المقفع والجاحظ وغيرهم.
الحكمة في (نهج البلاغة)
إذا كانت الحكمة تكثيفاً لتجربة حياة غنية في كلمات قليلة، فإن الإبداع لا يكمن في المضمون وحسب، بل ويعتبر الشكل البليغ جزءاً من أسباب التوصيف وأحد عوامل الشيوع والانتشار. لقد انتشرت أبيات من الشعر على ألسنة الناس للمتنبي وأبي تمام وغيرهما، وكذلك عبارات من الأحاديث النبوية وللإمام علي (عليه السلام) حتى قبل تدوينها رسمياً بعد ذلك، وجاء سبب غلبة الشعر أنه الأسهل حفظاً لسيادة الموسيقى وحب الناس لهذا النوع الأدبي، وعلى سبيل المثال اعتبر الناس (بيت القصيد) هو الأجمل والممتلئ بالحكمة مضموناً، فإذا نظرنا إلى بيت أبي تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب ********** في حده الحد بين الجد واللعب
أو إلى بيت المتنبي :
إذا رأيت نيوب الليث بارزة ********** فلا تظنّن أن الليث يبتسم
إذا اعتبرناهما مثالاً للقول الحكيم المنتشر والمتداول، فإن عبارة ((القناعة كنز لا يفنى)) للإمام علي (عليه السلام) إحدى أبلغ (الأمثلة) في الحكمة، والتي انتشرت حتى قبل أن يعرف قائلها.
جمالية القول الحكيم تكمن في تحوّله إلى عنصر من عناصر الإقناع في الحوار بين البشر، ومؤشر ـ في الآن ذاته ـ على إبداع القائل وحكمته، ولعلّ الآية الكريمة التي تنصّ على أن (ومَن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) خير مثال على سمو المبدع القادر على الكشف، وتمكنه من السيادة على المجموع عبر الكلمة، بما في ذلك خدمة هذا المجموع، وذلك يعني أن النص الأدبي الذي يحتوي شذرات من الحكمة، يرتقي إلى ذروة القيمة في الإبداع، ناهيك عن تمكنه من التأطر في شكل لغوي متسم بالجمالية الأدبية. وبهذا الاعتبار تم تقييم أقوال الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) المجموعة في (نهج البلاغة).
انتشرت الأقوال الحكيمة في النهج شاملة شتى مناحي الحياة، اجتماعاً وسياسة وأخلاقاً، ولعلّ بعضها مما عرفت نسبته إليه لاحقاً، رغم تواتره على الألسنة جيلاً بعد جيل، يستحق أن يوصف بأنه التأسيس والذروة، فقد ورد في خطبته الشهيرة (الجهاد) التي تبدأ بعبارة ((الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه)) وعبارة ((لا رأي لمَن لا يطاع)) فذهبت مثلاً.
في هذا البحث نقتصر على تحليل نماذج من أشهر نصوصه التي أفرد لها الجامع عنواناً عريضاً هو الحكم، أو غريب القول، هذه النصوص يجري اختيارها على قاعدة ما يلمسه القارئ من صدى في ذاته لأهمية هذا النص أو ذاك، فإذا بدأنا بحكمته الشهيرة ((صاحب السلطان كراكب الأسد، يغبط بموقعه وهو أعلم بموضعه)) [الحكمة: 255] .
نكتشف لدى الإمام قدرة على التصوير وسبر الأغوار، بل ما أبدع ذلك الوصف لحاشية السلاطين.
وإذا تناولنا الحكمة [204] ((أغض عن القذى وإلاّ لم ترضَ أبداً))، أو ((مَن لان عوده كثفت أغصانه)) فقارب مقولة أو جوهر مقولة السلوك الذي يؤدي إلى كسب المكانة عبر المرونة والثقافة معاً. ولكن من أبرز حكمه التي تدل على خطه الجوهري في الحياة هي التالية: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) [الحكمة: 156] .
فقد جاءت تكثيفاً لمنهج عمل في الحياة، أخلاقاً وسياسة وسلوكاً، وقد اشتهر هذا القول ليصبح مستند الذين يطلبون الثورة ورفض الخنوع، في مقابل أولئك النفر من المثقفين الذين ألحّوا على رفض منهج الثورة على السلطان الجائر، واعتبروها من الفتن التي تتسم بإلحاق الضرر بالأمّة، كانت وما زالت حكمه تعبّر عن موقف سياسي رسم شخصية الإمام ومحبيه حتى اليوم.
يتصل بهذا القول حكمته رقم [101] ((مَن وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومنَّ من أساء به الظن))، وذلك من زاوية مراقبة السلوك الذاتي للمرء حتى يتصدى للعمل بين الجماهير وما يستلزمه ذاك من سمعة طيبة، ليكون قدوة للآخرين، وينأى بنفسه عن مواطن الشبهة.
في مجال التقويم الإنساني للبشر، أطلق الإمام حكمته الشهيرة ((قيمة كل امرئ ما يحسنه))، وهو بذلك يضع ميزان التقويم الإنساني الصحيح (العمل) وليس النسب أو المال، وقد ازداد هذا النص شهرةً عندما نظمه ابن الوردي شعراً حين قال:
قيمة الإنسان ما يحسنه ********** أكثر الإنسان منه أو أقل
ليذهب مثلاً.
ومن أجمل ما قاله في توصيف طبيعة صلة الحياة والإنسان، الحكمة [62].
((فقد الأحبة غربة))، وليس أحكم من توصيف الغربة في الحياة بموت الأحبة والأصدقاء، وليس بمفارقة الأهل أو الوطن..
لقد أصاب الإمام (عليه السلام) جوهر الحقيقة، ذلك أن أحد أهم تعاريف نظرية الحق هو مطابقة القول الحق للواقع، وهو ما توصف به الحكمة أيضاً.. تحليل الواقع والتعبير عنه.
من أقواله في توصيف جوهر الواقع مجموعة من الأقوال الشهيرة:
((الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق)) [الحكمة 77].
((إذا هبت أمراً فقع فيه، فإن شدة توقيه أعظم مما تخاف منه)) [الحكمة 179].
أو ((المرء مخبوء تحت لسانه)).
ولكن حكمه السياسة أبرزت إنساناً امتلك خبرة في فن السياسة قل نظيره، بالرغم مما تعرض له مشروعه من محاربة ظالمة، حين قال: ((ما اختلفت دعوتان إلاّ كانت إحداهما على ضلالة)) [رقم 174].
ويذكرنا ذلك بقول لينين (إذا وجدت حزبين شيوعيين في بلد واحد، فأحدهما انتهازي)، والواقع أن الدعوتين المقصودتين تصبان أو يفترض أنهما تصبان في إطار واحد وتسعيان لهدف واحد، هذا من ناحية الخلاف، فلا يمكن أن يكون الحق مع الطرفين، فإما أن يكونا على باطل، أو أن أحدهما على باطل قطعاً.
من أعجب حكم الإمام ما احتوى على حقائق في علم النفس الإنساني، أثبتها بعد زمن طويل، ومنها هذه الحكمة ((ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه)) [الحكمة 25].
وإذا عدنا إلى نظرية فرويد في اللاشعور، كأحد دعائم التحليل النفسي، لوجدنا أن هذا القول هو أحد أبرز دعائمها.
أخيراً.. في تلخيصه لِكُنْه الحياة والاجتماع الإنساني، يقول الإمام علي (عليه السلام): ((أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما)) [الحكمة 260].
هي الاعتدال في المشاعر حباً وكرهاً، بإدراك ثاقب أن الحياة تمتلك من التغيير ما لا يستطيع الإنسان أن يتجاهله، وعلى العاقل أن يحسب حسابه، ولكن الحكمة التالية يمكن تصنيفها في ذروة الحض على التمسك بالقيم الأخلاقية والغيرية تحديداً (ذروة هذه القيم.. فعل الخير والمروءة)، يقول (عليه السلام): ((أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم، فما يعثر منهم عاثر إلاّ ويده بيد الله ترفعه))، [الحكمة 19].
ليطلق الإمام (عليه السلام) حكم قيمه جازماً عندما يربط بالله سبحانه بالقطع منع إذلال كل ذي مروءة، ديدنه مساعدة الناس.
وهكذا يمكن القول إن حكم الإمام علي (عليه السلام) الخالدة، التي ذهبت على كل شفة ولسان، لتستضيء بنور معناها العقول، ولتبتهج لجمال مبناها النفوس..
والتي لا تفتأ تتناولنها الأقلام، هي التي أسست وأوحت هذا النوع من الأدب الحكمي الرفيع في النثر العربي، الأمر الذي اكسبه عمقاً وتأثيراً بالغين.