مثل الصعود في عمارة شاهقة من خلال طوابقها، يطور العالم علمه: يصعد في عمارة علمه من خلال طوابق أطواره، ولكنه لا يصل إلى سطح؛ فإما أنها لا سطح لها، وإما أنه كلما صعد طابقا ازداد عليه آخر؛ فهو صعود لا ينقطع! يتلبث عند كل طابق، يتطلع منه إلى الأفق؛ فيرى من الطابق الأول ما لم يكن يرى من الأرض، ومن الثاني ما لم يكن يرى من الأول، ومن الثالث ما لم يكن يرى من الثاني، ...، وهكذا دواليك؛ فلا يكاد يفرح بما حصَّل أولا، حتى يستصغره إلى ما حصل ثانيا، ولا بما حصل ثانيا حتى يستصغره إلى ما حصل ثالثا، ...، وهكذا دواليك أيضا!
أما أن يستصغر ما حصَّل من قبل إلى ما حصَّل الآن فحق لا يُلام عليه، وأما أن يحتقره فباطل لا يُقبل منه؛ إذ ليس للدرجة الثانية من السُّلَّم على الدرجة الأولى من فضل إلا مثل ما للأولى على الثانية، بل ربما استغنى بالدرجة الأول مستعملُ السلم في نيل بعض أغراضه، أو لم يكن لبعض مستعملي السلالم من الأغراض إلا ما تكفي فيه الدرجة الأولى!
ولقد كان علم العَروض (منهج البحث عن طبيعة وجود الأوزان والقوافي في الشعر العربي، توصلا إلى ضوابطها)، جُزْئِيًّا، يتطلع فيه العروضيّون من طوابق عمارة العلم الشاهقة السفلى، إلى التحليل والتركيب والتقويم، فيشتغلون بالأبيات المفردة، يستشهدون بها على صور الأوزان والقوافي التي وجدوها فيما اطلعوا عليه من شعر تختلف باختلاف تفعيلات أشطارها وأجزاء قوافيها، ويتنافسون في تعديدها، حتى ورث ذلك كله عنهم الدكتور شعبان صلاح (صاحب "موسيقى الشعر بين الاتباع والابتداع")، وأترابه الذين اجتهدوا أن يحيطوا به، وهيهات؛ فإن الصور في مثل أضعاف أعداد المصوِّرين، نجهل منهم ومنها أكثر مما نعرف!
ثم صار علم العروض كُلِّيًّا، يتطلع فيه العروضيّون كذلك من طوابق عمارة العلم الشاهقة العليا إلى التحليل والتركيب والتقويم، فيشتغلون بالنص الكبير الكامل، الذي يُعايره بمَعاييره الخاصة النَّصِّيُّون، وينقدونه في هيئته الكبيرة الكاملة على هُدى ما يقدّرون أنه كامن فيه من خطة هندسية متحكمة في مكوناته الصغيرة والكبيرة، حتى يستطيعوا تجنيسه تجنيسا دقيقا، يدل على حقيقته في نفسه وعلى موضعه من غيره- ويسعون على آثارهم مؤمنين بأن هذا النص الكبير الكامل، إذا كان قصيدة كان العروض قائما في كل معيار من معاييره كُمونَه في خطته الهندسية.
وكما لم يصل الصاعد في تلك العمارة الشاهقة إلى طوابقها العليا إلا أن يمر بطوابقها السفلى، لم يستغن العروضيون في بحثهم العلمي العروضي الكُليّ، عن المفاهيم الجُزئيّة؛ فإذا رُكامٌ عجيب، ربما كان بين بعضه وبعض مئات السنين وملايين الباحثين، اتسع لها كلها مثلما اتسعت الأرض لآلاف ملايين البشر الناسلين من أبوينا الشيخين الكريمين، عليهما السلام!