هذي قصة قصيرة من قصص الأديبة الرائعة خولة القزوي
غبار على المرآة
[بقلم: خولة القزويني]
في كل مرة يستوقفني بريق عينية إذ أجد نفسي أسبح في ذلك الصفاء يهمس في عذوبة كأنما يحملني في وهج الحنان إلى غيبوبة الحلم، توأمة روحية لا انفصام لها، استوثق ذلك الإحساس فور اندثار البسمة في غياهب الحزن، استدركت هذا اليوم وأنا في غاية الدهشة لما يهرب من اختراق عيوني إلى صميمه، عيناه غائبتان في قلق مدفون تستطلعان البعيد في وحشة ملقاة ثم تبحثان عن قرارهما في أعماقي. سألته..
((ما بك هذه الأيام.. ثمة أمر يشغلك)؟! أجابني باقتضاب:
((لا شي على الإطلاق، مجرد صداع)) تنهد ليستريح وتسلل إلى الشرفة يعبث بأرقام تلفونه الخاص، يتشاغل هروباً مني، تبعته
(( لست مرتاحاً كعادتك)) حدجني بنظرة قلقة، ينفي في إيماءة من رأسه، تراجعت عن محاولتي الأخيرة، تركته يسترجع أفكاره لعله يصل إلى حالة البوح التي اعتدت عليها في حياتنا، هكذا أفهمه دائماً لأنه لي كالمرآة المصقولة تعكس فيض مشاعري*** حداني النبضات المتحاورة *** الأرواح المتهانفة شفاهاً، دائماً هناك لغة نعبر من خلالها على كل المنغصات أنهكني صمته وتكتمه في هيكلة الكبرياء، المتكلسة حوله حينما تداهمه لحظة ضعف ودونما ارتكب حماقة استدرت ناحيته اعبر عن حنان مكنون في كيان أمومي بعيد، بعد الجذور الضاربة إطنابها في تاريخنا وأسبغ عليه هالة من الاطمئنان فابتدرني مشفقاً في اعتذار
((اتركيني ريثما استرد بعض معنوياتي)).
اكتشف المقربون اضطرابي واعتلال مزاجي وراحوا يدسون في جوف الواهمة الشره وساوس مختلقة تنبع عن حس دفين فتعوض النفس في غيبيات الأشياء لتسير عبر الأحداث والمواقف لعلها تستمد من بين هذه التراكمات خيط النجاة... ليست هناك امرأة أخرى.. أنثى جديدة تدس نفسها في ذاكرته فمناخه ليس بمناخ عاشق وشروده ليس بشرود مغرم... أظنه ذهول يختمر في نفس محبطة وهاتف يستبق كل هذه الاستنتاجات
((إنها مجرد ذرات غبار فوق تلك المرأة المصقولة لا تقلقي حتماً هناك مخرج لهذه الظلمات)).
سأمضي أنحت في هذا الجدار الأصم لوحة حب ناضجة تفرض نفسها رغم كل الخيبات، لأزحف إلي قلبه عبر هذا النفق المظلم مستنيرة بتاريخه المشرق في عمر زواجنا وأقيم هناك في قلبه معتصمة مضربة عن الحياة حتى استرد الاعتراف من فمه المقفل.. بدا متردداً ما بين إقبال وإدبار والكلمات الخجولة تتعثر فوق شفتيه المرتعشتين, اقتربت منه لأربت على كتفه متوددة ((أنت زوجي العزيز، إن قست الأيام عليك فليس لك في الدنيا ملجأ غير قلبي تفترشه بساطاً تحت قدميك وتحلق بجناحيك إلي رحاب العالم الأوسع)) ازدرد ريقه في حشرجات يائسة:
كل التحاليل سلبية، لقد أنبأني الطبيب بهذه الحقيقة، فالإنجاب متعذر وأنتِ المجنة التي صدت كل سهام التقريع متهمة في أنوثتك والواقع هو أنا من أتحمل المسؤولية كاملة)).
ابتسمت في دعة وسكون وعيناي تذرفان في عذوبة: ((ليتك ما فعلت كل هذا لأني بالفعل حامل، وما كنت أريك أن أبشرك إلا وأنت في وجهك الضحوك، لتستوعب الحلم، ولأرى نفسي واضحة في عينيك، لقد انصرمت تلك الأيام بعذاب سادر واستقبحت حشريتي في عالمك الخاص روضت أعصابي المنهكة على قبول ذاتك المنكفئة)). في دهشة استطرد وقد أذهلته المفاجأة.
كيف حدث كل هذا؟ انفرط البوح مشعاً بحرارة الإيمان، (( إن الله على كل شيء قدير، وتقارير الأطباء، أثبتت أن مغالطات البشر كثيرة وتنحني إجلالاً لحكمة الله الغيبية)).
تندرت مازحة (( ظننت أنك منهمك في قرار صعب، الزواج من امرأة منجبة ولكنك متردد في فرض هذه الحقيقة على حياتنا)). استنكر قائلاً: ومن أين أجد لي مرآة صافية تعكس حقيقة روحي دون غبار؟!