اشتراك العلوم
ليس منهج البحث العلمي البَيْنِيّ المرجوّ الآن لكل خير، إلا وجها من مراجعة أدب البحث العلمي القديم، ويَا ما أكثرَ المسائلَ العلمية المعاصرة المشكلة التي تحتاج عند المعالجة إلى مثل هذه المراجعة!
لقد أفضى بالباحث المعاصر خوفُه المنهجي أو ضعفُه، إلى الاستمساك بأجزاءِ أجزاءِ الأجزاءِ؛ حتى صار يلجأ في البحث عن المسألة في التخصص من داخل التخصص من داخل التخصص، إلى إعادة آخر ما صنعه بها من قبلُ هو أو غيره، ثم زَحْزَحَتِه ولو خطوةً، وكأنه إذا لم يفعل ذلك سقط في بئر الإخفاق الشديد المغطّاة بغطاء التشتُّت الخفي، على حين كان العالم المشتغل بالعلوم المتعددة المختلفة من العلماء القدماء، حريصا في بحثه عن المسألة في علم، على إشراك سائر العلوم!
يجعل أحد الباحثين المعاصرين في علم العَروض مثلا، بحثه الرفيع في تغييرٍ من عشرات التغييرات التي تصيب تفعيلة من طائفة من التفعيلات التي يشتمل عليها بيتُ بحرٍ من الستة عشر بحرًا عروضيًّا التي يُبحر فيها الشعر العربي؛ فينطلق من ذلك التحديد الشديد إلى مادة محددة كذلك (شعر شاعرٍ معين أو طائفةٍ من الشعراء)، يجمع ما وقع بتفعيلات أبيات قصائدها من التغيير، ويصنفه، ويعرضه، ويعلق عليه ما يتيسر له جمعه من كلام العروضيين؛ فلا نلومه على ذلك!
ولكننا ينبغي أن نلوم من يستطيع أن يصطنع في نقد ذلك التغيير منهجًا يُشرك فيه علوم الموسيقى والرياضيات والأصوات والفيزياء والبديع والصرف والنحو والفلسفة وغيرها، ولا يفعل؛ فليس الإتقان أن يكتفي بما يكتفي به منه رؤساءُ تحرير المجلات العلمية المحكمة، ولكن الإتقان أن يعمل كل ما يمكنه عمله.
نعم؛ وعندئذ يكون كأنما يراجع منهج الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي ضرب في كل علم من تلك العلوم وغيرها بسهم نافذ؛ فصار كلما فكر في مسألة واحدة مِن أحدها سلَّطها عليها كلَّها؛ فأما أشباهُه من "المتعددي العلوم المختلفة المشتركيها" فيعرفون أنه الحق: أَصَبْتَ، يا أبا عبد الرحمن! وأما أشباه ذلك "المحتبِس في التخصص الدقيق" فيسخرون منه -"سخر الله منهم"!-: ماذا أَرادَ الفراهيديُّ بهذه الأَشْتات!
ولعل "نظرية النصية العروضية" أن تكون أشبه بنظريات البحث الخليلي (المشترك العلوم المتعددة المختلفة)، منها بنظريات البحث غير الخليلي (المحتبِس في التخصص الدقيق)، وهذه مصطلحاتها قد تنوعت تنوعا لا يَصِفُ طبيعةَ البحث البَيْنيّ المرجوّ لكل خير، غيرُه!