TODAY - October 04, 2010
طالب السوداني الذي كفنته العدمية قبل موته بقرون

طالب السوداني في اخر صورة له ... طالب السوداني و عبد الخالق المختار في لقطة فريدة بعدسة الفنان مقداد عبد الرضا

محمد غازي الاخرس
موت طالب السوداني ليس مفاجأة ايها السادة. كلا، هو موت جد طبيعي شبيه بموت أولئك الصعاليك الذين احتقروا أجسادهم وداسوا عليها بأحذيتهم القذرة غير عابئين بآلامها وصرخاتها.
لا يختلف صاحبنا عن بقية الصحب، صباح العزاوي، عبد الأمير الحصيري، هادي السيد حرز، وحسين مردان، الا بشيء واحد هو العدمية التي لا تجد لها مثيلا أبدا.
أجل، فطالب السوداني، ولا أدري ان كانت تلك مجرد خصيصة تجمعه بزملاء الحقبة ام هي مزية يحسد عليها أمثاله، كان نتاج سنوات التسعينيات وهي سنوات تبدو الأغرب التي تمر بالمثقف العراقي طوال تاريخه.
اجل، لقد بدا صديقنا النحيل مثل تلك السنوات تماما، عابرا كأنه كيس نايلون، غير منتبه اليه كحائط وسخ، مشتت الروح كسيرها، وغير شاعر بقيمة ما يقول وينتج. بل أظنه غير عارف بقيمة اي شيء مقابل أي شيء آخر.
لذلك لم يكن غريبا ان يكون طالب السوداني عرضة للتغيرات المفاجئة والمواقف المتناقضة لدرجة الاتجاه عكس السير بعض المرات.
السبب في ذلك أنه كان عدميا بامتياز، وقد انعكست عدميته الرهيبة حتى على جسده وطريقة تعاطيه معه:في آخر مرة التقاه حميد قاسم قبل شهر سأله ـ ما بك ؟ "فأجاب بلا مبالاة : يقولون ماي بصدري..وبسخريته أردف ضاحكا: چا شيردون؟ بيبسي؟".
كان السوداني، صانع النكات اللاذعة، يعرف ان ثمة أعداء يبحثون في جسده عن اي ثغرة لقتله وكان صاحبنا يتعاطى مع اولئك الاعداء بالسخرية نفسها التي يتعاطى بها مع أي شيء آخر.
ماذا يفعل وقد كتب عليه القدر ان يتيه في الحقبة العدمية باحثا عن حياة لا تختلف عن الموت الا كما يختلف "كوكتيل "غنائي يؤلفه عن "كوكتيل" من الأحزان والمسرات يعتصره في روحه. ويمكن ان يظهر هذا الأخير على شكل قصائد نثر او مشاريع قصائد نثر يحدثك عنها وكأنه يحدثك عن حلم رآه في الظهيرة .
أول مرة أتعرف فيها على السوداني كانت عام 1996. التقيته في منتدى المسرح فسحرتني شعبويته. جلسنا في الكافتريا طويلا ، اختلط الجد بالهزل وضحكت كما لم اضحك قبل ذلك. كيف لا وأنا في ضيافة شاب بدا لي شبيها بعجوز قدمت للتو من الأهوار: نحول وسمرة وصوت يختصر كل آلام الجنوب ، ذوبان في الشعر وسخرية لا تبقي أمامها اي شيء . جرأة لا مثيل لها واصغاء لهاجس حقيقي يمرد الروح بعيدا عن لوثات المثقفين الكاذبة.
لم أحببت طالب السوداني بتلك الطريقة؟ هل راهنت على شيء ما خيل الي أنه موجود فيه؟ هل كنت مهجوسا بتلك "الشعبوية" التي عادة ما يمقتها المثقفون؟ هل ذكرني بشيء ما لا زلت احتفظ بلثغته على لساني؟
كل ذلك ممكن . فطالب السوداني شعبوي لدرجة أن صالات المثقفين ـ كما نعرفهم ـ طردته بعيدا، فبات شبيها بابن عاق وخطير لا يسمح له بالدخول خوفا من ان يفضح المسكوت عنه دون اعتبار لأي مقدس. انه ابن "فضائحي" النزعة، عدائي احيانا ، شرير وصريح ولا يضع قناعا على وجهه.
مع هذا فان مجرد وجوده يشعر المثقفين "الجبناء" من أمثالي وأمثالك بالاطمئان، فهو يمكن ان يقول ما أخشى انا من قوله ويمكن ان يفعل ما تتمنى أنت ان تفعله: ذات مرة نام على الأرض في حديقة "حوار" ثم صار يزحف على ركبتيه وذراعيه الى أن وصل الى الراحل رعد عبد القادر واذ سأله الأخير عن سبب ما قام به أجاب بصوت يسمعه الجميع : جا مو اليوم يوم "الزحف الكبير"!
كان لاذعا كنحلة، سريع البديهة كعجوز فطن، وفوق ذلك كان موهوبا حتى بمشيته.
حين انتهى لقائي الأول به عام 1996 كانت الحصيلة هي التالية:أمامي رجل ذو نزعة سيريالية، يكتب قصيدة النثر بحياء من لا يحظى بأية شرعية، يعرف قدر نفسه جيدا ويضحك من تطفله على وسط كوسطنا. لديه خيال جامح يمكن ان يؤدي به الى متحف الشمع اذا أحسن قيادته. ومع هذا وذاك ، فان لا أحد مستعد للتعاطي معه بشكل جاد ونشر قصائده النثرية والسبب يعود الى سمعته "السيئة" بوصفه شاعرا شعبيا اختص بتأليف الاغاني الصاخبة والكوكتيلات المخربة للذوق!
في ذلك اللقاء أعطاني طالب السوداني عددا من القصائد وخولني نشرها في أي مكان أرتئيه. وبقيت صلتنا مستمرة وفق شعار اخترعه عني:محمد غازي الاخرس والعباس مشور بيه ..!
بعد ذلك بسنة تقريبا كلفت من قبل مجموعة شعراء في هولندا بتنظيم ملف ينشر في مجلة اسمها "واحد". وهي مجلة تحاول مد جسور من الصلات مع المثقفين داخل العراق. وما هي الا أسابيع حتى جمعت الملف وكتبت له مقدمة وكان من بين الذين وضعت لهم قصائد حسين علي يونس وحازم لعيبي وفارس حرام ومحمد الحمراني وأيضا طالب السوداني.
كانت تلك هي المرة الأولى التي ينشر فيها السوداني شيئا بطريقة محترمة وفي ملف بمجلة أوروبية، والأمر هذا عرضني لاحقا للوم بعض المثقفين. كان لسان حالهم يقول : ألم تجد غير طالب السوداني في هذا الملف؟
لكن لا عليكم فحين تقرؤون القصائد ستعرفون سبب اختياري لها. فالى جانب البساطة والعمق ثمة شاعرية تتدفق بهدوء، دون خيلاء، بل قد لا يخيل اليك ان كاتبها هو نفسه الذي كان يدبج كوكتيلات قاسم السلطان الشهيرة وفي احداها مقطع أعشقه:
لعب لعب الخضيري بشط ..
اعرفك حيد ما تفحط ..
سباني بطارف عيونه
ولا خاف اللي يلومونه
اضمك وين يالبعين
ودي بالكلب تنحط
***
بعد حرب ألفين وثلاثة تبدل طالب السوداني بطريقة غامضة فوقف ضد التغيير في وقت كان المتوقع ان يحدث العكس.
هل وقف ضد الاطاحة بصدام ام ضد احتلال العراق؟
لا أدري، لكنه حدثني عن هربه من العراق الى الاردن وعودته من هناك لاحقا بعد وصوله الى اليقين بانه خلق ليحيا ويموت في بلاد الرافدين. ثم عاد فيما بعد ليكتب لقناة "الشرقية" واحدا من انجح برامجها وهو "الحكو ..مات" التي تنبأ بها بانقراض العراقيين.
هل تذكرون كيف كان البطل (سعد خليفة) يحسد القطة على ما تنعم به من أمان ؟
لماذا كتب السوداني ذلك ؟ لم انزعج الكثيرون من "الحكو..مات" ؟
لقد أحدث البرنامج لغطا ودويا كاد يذهب اثرهما السوداني ضحية للاستهزاء بالشعب العراقي ـ كما فهم حينها ـ الا أن "طائفته" و"جهته" قدمتا له الحماية كما قال لي. بل ان صديقي تعهد لجهات ما بعدم الاقتراب من "الشرقية"، واضاف أن تلك الجهات عفت عنه بسبب انتمائه الى "طائفة"معينة . قال بلهجته التي لا تنسى : كالولي طيحنا لك ياهه..!
***
في التعريف الذي وضعته لطالب السوداني عام 1997كتبت: شاعر ومؤلف مسرحي مواليد 1965 قيد الطبع ديوانه "وقد سبق للشاعر ..قتل أبيه"..
كنت اعتمدت حينها على ما رواه لي شخصيا اذ حدث ذات مرة ، ان قدم أحد وكلاء الأمن تقريرا لمرؤوسيه عن طالب السوداني وفيه أورد بعض العبارات التي قالها الأخير ويشم منها رائحة معارضة السلطة القائمة. وفي الأخير كتب وكيل الأمن العبارة التالية كدليل أخير على الروح الاجرامية التي يتميز بها السوداني ، كانت العبارة تقول : هذا وقد سبق للشاعر قتل ابيه..!
فيما بعد جمع طالب السوداني عددا من قصائده آنذاك وحلم باصدارها في ديوان اطلق عليه "وقد سبق للشاعر ..قتل أبيه".
بعد مدة صادفت السوداني في مكتب الشاعر احمد الشيخ في الباب المعظم واذا به يبشرني : غيرت اسم الديوان ..
ـ ماذا أسميته ؟
ـ أسميته "طز" ..
ـ طز !!
ـ نعم ..طز ..طز ..طز !
وداعا يا صديقي