جلال الدين الرومي الشاعر الصوفي
00 وُلد "جلال الدين محمد بن محمد بن حسين" بفارس في (604للهجرة).
لأسرة تحظى بمصاهرة البيت الحاكم في "خوارزم"، وأمه كانت ابنة "خوارزم شاه علاء الدين محمد".
عاش جلال الدين مع ابيه في فارس مدة لم تزد عن ثلاثة سنوات انتقل بعدها الى بغداد ولم يكن الطفل قد بلغ الثالثة من عمره، وذلك بسبب خلاف بسيط دب بين أبيه والوالي " محمد قطب الدين خوارزم شاه" وكان ذلك عام 607 للهجرة.
وفي بغداد نزل أبوه في المدرسة المستنصرية، ولكنه لم يستقر بها طويلاً؛ إذ قام برحلة واسعة زار خلالها "دمشق" و"مكة" و"ملسطية" و"أرزبخان" و" لارند"، ثم استقر آخر الأمر في "قونية" في عام 632هجرية، حيث وجد الحماية والرعاية في كنف الأمير السلجوقي "علاء الدين قبقباذ".
بداية عمله بالتدريس
وبعد استقرار أسرة جلال الدين في "قونية" في كنف الامير "علاء الدين قبقباذ" تم اختيار الاب للتدريس في أربع مدارس بـ"قونية"، وكان جلال الدين في هذه الاثناء قد أصبح شابا، ثم توفي أباه في سنة 638 هجرية، فتم اختيار ابنه جلال الدين ليخلفه في هذا المنصب، وكانت هذه هي بداية عمله بالتدريس وهي المهنة التي كان لها اكبر الاثر في إثراء الناحية الشعرية عنده.
معرفته بالصوفية والشعر
وخلال عمله بالتدريس اشتهر "جلال الدين" بالبراعة في الفقه وغيره من العلوم الإسلامية، وبالرغم من كل هذه المميزات التي تجعله من اشهر أساتذة عصره إلا أنه لم يستمر كثيراً في التدريس؛ فقد كان للقائه بالصوفي المعروف "شمس الدين تبريزي" أعظم الأثر في حياته العقلية والأدبية؛ فمنذ أن التقى به حينما وفد على "قونية" في إحدى جولاته، تعلق به "جلال الدين"، وأصبح له سلطان عظيم عليه ومكانة خاصة لديه.
وانصرف "جلال الدين" بعد هذا اللقاء عن التدريس، وانقطع للتصوف ونظم الأشعار وإنشادها، وأنشأ طريقة صوفية عُرفت باسم "المولوية" نسبة إلى "مولانا جلال الدين".
اهتم "جلال الدين الرومي" بالرياضة وسماع الموسيقى، وجعل للموسيقى مكانة خاصة في محافل تلك الطريقة، مخالفاً في ذلك ما جرى عليه الإسلام، وما درجت عليه الطرق الصوفية ومدارس التصوف.
سمات شعره
اتسم شعر "جلال الدين الرومي" بالنزعة الصوفية الخالصة؛ فقد كان شعره أدباً صوفيّاً كاملا، له كل المقومات الأدبية، وليس مجرد تدفق شعوري قوي، أو فوران عاطفي جياش يعبر به عن نفسه في بضعة أبيات كغيره من الشعراء، وإنما كان شعره يتميز بتنوع المخيلات وأصالتها، ويتجلى فيه عمق الشعور ورصانة الأفكار، مع سعة العلم وجلال التصوير وروعة البيان.
ويُعد "جلال الدين" شاعراً من الطبقة الأولى؛ فهو قوي البيان، فياض الخيال، بارع التصوير، يوضح المعنى الواحد في صور مختلفة، له قدرة على توليد المعاني واسترسال الأفكار، ويتسم بالبراعة في انتقاء الألفاظ واختيار بحور الشعر، وتسخير اللغة والتحكم في الألفاظ، كما يتميز شعره بالشعور الشمولي وقدرته على كسر الحواجز الدينية والثقافية.
الرومي في خدمة الاسلام
وبالرغم من التجديد الذي أدخله الرومي على طريقة شعره وعلى طريقته الصوفية من الموسيقى اوغيرها الا انه كان يعلم يقينا ان الشعر أداة مهمة لنشر الدين والتعريف بأركانه ظهر كل هذا في رائعته الخالدة "المثنوي" والتي تدل على قمة الشاعرية عند "جلال الدين الرومي"، وقد نظمها لتكون بياناً وشرحاً لمعاني القرآن الكريم، ومقاصد الشريعة المطهرة؛ ليكون ذلك هدفاً إلى تربية الشخصية الإسلامية وبنائها، وزاداً له في صراعه مع قوى الشر والجبروت، وعوناً له على مقاومة شهوات النفس والتحكم في أهوائها، وتكشف "المثنوي" عن ثقافة "جلال الدين الرومي" الواسعة، والتعبير عن أفكاره بروح إنسانية سامية، تتضاءل إلى جوارها بعض الأعمال التي توصف بأنها من روائع الأعمال الأدبية.
وقد استخدم "جلال الدين" في "المثنوي" فن الحكاية بإتقان بارع، وهي في حركتها وتطورها وحوارات أشخاصها لا تقل روعة عن بعض القصص المعاصر، وتتميز الشخوص بأنها ثرية متنوعة في تساميها وعجزها ونفاقها وريائها، وحيرتها بين الأرض وما يربطها بها، وبين السماء وما يشدها إليها، كل ذلك في تدفق وانسياب غامر، وعرض شائق، وأسلوب جذاب أخَّاذ ولغة متميزة.
أهم مؤلفاته
كانت هذه الشخصية الفذة بارعة في كثير من العلوم ولكن القسط الاكبر كان للشعر نظرا للتوجه الصوفي الذي سلكه الرومي، وقد ترك جلال الدين الرومي الكثير من المؤلفات التي أثرت المكتبات العربية علي اختلاف العصور بالكثير من المعلومات الادبية والتاريخية والدينية ومن أهم هذه المؤلفات :
1– الرائعة التاريخية "المثنوي": وقد نظمه في ستة مجلدات ضخمة تشتمل على (25649) بيتاً من الشعر، وقد تُرجم إلى العربية، وطُبع عدة مرات، كما تُرجم إلى التركية وكثير من اللغات الغربية، وعليه شروح كثيرة، وهو كتاب ذو مكانة خاصة عنده.
2- ديوان "شمس تبريز": ويشتمل على غزليات صوفية، وقد نظمه نظماً التزم فيه ببحور العروض، وهو يحوي (36023) بيتاً بالإضافة إلى (1760) رباعية، ويشتمل أيضا على أشعار رومية وتركية، وهو ما يدل على أنه كان متعدد الثقافة، وأنه كان على صلة بعناصر غير إسلامية من سكان "قونية".
3– كتاب بعنوان "فيه ما فيه": وهو عبارة عن حشد لمجموعة ذكرياته على مجالس إخوانه في الطريقة، كما يشتمل على قصص ومواعظ وأمثال وطرائف وأخبار، وهو يخاطب عامة المثقفين على عكس كتابه الأول الذي يخاطب خاصة الصوفية.
4- "المجالس السبعة": وهو يشتمل على سبع مواعظ دينية وخطب ألقاها أثناء اشتغاله بالتدريس.
وذلك بالإضافة إلى مجموعة رسائله، وفيها تلك الرسائل التي وجهها إلى شيخه "شمس الدين تبريزي"، وهي تصور تلك العلاقة الروحية السامية التي ربطت بين الشيخ "شمس الدين" وبين مريده "جلال الدين"، تلك الرابطة الوثيقة من الحب المتسامي الرفيع.
مكانته عند الغرب
ولعل هذه الشخصية الشعرية لم تكن معروف في بلاد الشرق فقط بل وصلت شهرتها الكثير من البلدان وهذا يظهر من وجود مؤلفات الرومي في الكثير من البلدان الغربية والعمل على ترجمتها الى اللغات المختلفة، ولا تزال تتوارد الترجمات الجديدة لمؤلفات جلال الدين الرومي الضخمة؛ وتتكاثر بشكل دائم الدراسات العلمية عن حياته وأعماله.
كما خصصت منظمة اليونسكو العام 2007 عاما دوليا للاحتفال بالمئوية الثامنة لميلاده تقديرا منها لمساهمته ومكانته الأكاديمية والشعبية، باعتباره عالما وباحثا وكاتبا وشاعرا.
تأثيره الأدبي
والمتأمل لشعر الرومي يجده يستوعب وحدة الوجود في معناها الأعم والأشمل عبر شعر وجداني تأملي دائم التحليق في آفاق العالم الروحاني، لا يكاد يلامس الحياة المادية إلا ليبين تفاهتها إذا ما قيست بحياة الروح وسعادتها الأبدية في الكمال والخلود.
ويتجلى هذا الوجود الإلهي، أو ما يطلق عليه المحبوب في الصداقة بين جلال الدين الرومي والصوفي المتجول شمس الدين التبريزي.
قتطفات من شعره
في أحد الأعوام اندلعت فتنة كبرى في قونية بتركيا قتل فيها شمس الدين تبريزي الشيخ والمربي لجلال الدين الرومي وقتل أيضا علاء الدين ابن الرومي فتألم الرومي كثيراً وبكى من أعماق نفسه الحزينة وكتب قصيدة لاهبة مليئة بالحزن الدفين والغزل الديني العميق.
من قصائدة هذه الابيات المترجمة:
وكان جلال الدين الرومي يعتبر نفسه داعيا الخلق إلى الله تعالى في رغبة روحانية في الوحدة الإلهية دون اعتبار للحواجز والحدود. وقد أنشد كلاما جميلا في الحب الإلهي، في ديوانه (شمس تبريز):
هذه بعض ابياته المترجمة:
الرومي في عيون الآخرين
وصلت شهرته الافاق وغزت كل الثقافات مما جعل لكثيرين من غير ابناء موطنه يمدحونه ويحبون شعره ومن الشهادات في حقه :
أ- تقول فيليس تيكيل المحررة بمجلة بابليشار ويكلي، وهي مجلة للإصدارات الأدبية، إن شعبية الرومي "تعود إلى ما نعانيه من ظمأ روحي كبير."
ب - ويقول الشاعر الأميركي كولمان باركس، الذي كانت ترجماته لأشعار الرومي أكبر عامل أدى إلى شعبيته في الولايات المتحدة، إن طبيعة أفكار المذهب الصوفي التي تغلب على أشعار الرومي وجدت صدى لها بين الأميركيين الذين يسعون إلى هذه الخاصية.
ج - الشاعر الألماني هانز ماينكي الذي قال إن شعر الرومي هو "الأمل الوحيد في الأوقات المظلمة التي نعيش فيها".
وفاته
توفي "جلال الدين الرومي" في عام 672 هجرية عن عمر يناهز السبعين عاماً، ودُفن في ضريحه المعروف في "قونية" التركية في تلك التكية التي أنشأها لتكون بيتاً للصوفية، والتي تُعد من أجمل العمائر الإسلامية وأكثرها روعة وبهاء بنقوشها البديعة وزخارفها المتقنة، وثرياتها الثمينة، وطُرُزها الأنيقة