سميت هذه الزيارة بالأربعين لأنها تمثل مرور أربعين يوما من أستشهاد الإمام الحسين عليه السلام في العاشر من المحرم سنة 61 للهجرة.
كما إن هذه الزيارة توافق في يوم العشرين من صفر الخير وهو اليوم الذي ورد فيه الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري إلى المدينة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين عليه السلام فكان أول من زاره من الناس.
وفي هذا اليوم أيضاً وافق رجوع عيال الإمام الحسين عليه السلام من الشام إلى كربلاء مرة أخرى بقيادة الإمام زين العابدين عليه السلام فالتقى بجابر عليه السلام.
من هنا بدأت زيارة الأربعين الإمام الحسين عليه السلام كما أنه اليوم الذي رجعت فيه رؤوس لأهل البيت عليهم السلام إلى أبدانهم في كربلاء
ويروى إن الصحابي جابر الأنصاري في يوم العشرين من صفر وقف على القبر الشريف لأبي عبد الله الحسين فأجهش بالبكاء وقال يا حسين ثلاثاً، ثم قال حبيب لا يجيب حبيبه وأنّى لك بالجواب وقد شطحت أوداجك على أنباجك، وفُرقَّ بين رأسك وبدنك، فأشهد أنك ابن خاتم النبيين وابن سيد المؤمنين وابن حليف التقوى وسليل الهدى وخامس أصحاب الكساء وابن سيد النقباء وابن فاطمة سيدة النساء، ومالك ما تكون كذلك وقد غذتك كف سيد المرسلين، وربيت في حجر المتقين، ورضعت من ثدي الإيمان وقطمت بالإسلام فطبت حياً وطبت ميتاً غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة بفراقك ولا شاكة في الخيرة لك، فعليك سلام الله ورضوانه، وأشهد انك مضيت على ما مضى عليه أخوك المجتبى ابن زكريا.
( ثم جال بصرة حول القبر وقال السلام عليكم أيتها الأرواح التي حلّت بفناء الحسين وأناخت برحله، وأشهد أنكم أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة ، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر وجاهدتم الملحدين، وعبدتم الله حتى أتاكم اليقين، والذي بعث محمداً بالحق نبيا، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه) فقال له عطية العوفي كيف؟ ولم نهبط وادياً ولم نعل جبلاً ولم نضرب بسيف والقوم قد فرق بين رؤوسهم وأبدانهم وأؤتمت أولادهم وأرملت الأزواج، فقال له جابر: (إني سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من أحب قوماً كان معهم ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم، والذي بعث محمداً بالحق نبيا إن نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين عليه السلام وأصحابه
كما إن يوم الأربعين من النواميس المتعارفة للاعتناء بالفقيد بعد أربعين يوماً، فكيف نفهم هذا المعنى عندما يتجلى في موضوع كالإمام الحسين (عليه السلام) الذي بكته السماء أربعين صباحاً بالدم، والأرض بكت عليه أربعين صباحاً بالسواد، والشمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، ومثل ذلك فالملائكة بكت عليه أربعين صباحاً، وما إختضبت امرأة منا ولا أدهنت ولا اكتحلت ولا رجلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد وما زلنا في عبرة من بعده، كما جاء في مستدرك الوسائل للنوري، ص215، باب 94، عن زرارة عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) ولفيفهم.
بالإضافة إذا أمعن الخطيب أو الشاعر في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) وذكر مصيبته وأهل بيته (عليهم السلام) تفتح له أبواب من الفضيلة كانت موصده عليه قبل ذلك ولهذا اطردت عادة الشيعة على تجديد العهد بتلكم الأحوال يوم الأربعين من كل سنة ولعل رواية أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أن السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً تطلع حمراء وتغرب حمراء تلميحُ إلى هذه الممارسة المألوفة بين الناس.
وتروي كتب التاريخ أن أول زائر لقبر الحسين(عليه السلام) هو عبد الله بن الحر الجعفي لقرب موضعه منه، قصد الطف ووقف على الأجداث ونظر إلى مصارع القوم فاستعبر باكياً، ورثى الحسين بقصيدة معروفة: يقول أمير غادر وابن غادر ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمه فواندمي ألا أكون نصرته ألا كل نفس لا تسدد نادم (أهم مراراً أن أسير بجحفل إلى فئة زاغت عن الحق ظالمه) (الطبري: 6/271)
وجاء في بحار الأنوار أن أول من قرأ الشعر على مصيبة سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) غير عبد الله بن الحر الجعفي المذكورة قصيدته آنفاً هو الشاعر عقبة بن عمرو السهمي من قبيلة بني سهم: إذا العين قرّت في الجنان وأنتم تخافون في الدنيا فأظلم نورها مررت على قبر الحسين بكربلاء ففاض عليه من دموعي الأنوار: 10/167)
وذكر الشيخ الطوسي في رجاله: (إن أول زائر لقبر الحسين (عليه السلام) في كربلاء هو جابر بن عبد الله الأنصاري السلمي الخزرجي، ويظهر من استقراء الروايات الواردة في هذا الباب أن جابر بن عبد الله هو أول زائر للقبر في يوم الأربعين) (موسوعة العتبات المقدسة: جعفر الخليلي 8/257).)
زيارة سيّد الشّهداء أبي عبدالله الحسين في عشرين صفر من كلّ عام، وهي المعروفة بزيارة الأربعين.
وقبل الحديث عن هذه الزّيارة، لا بدّ من ردّ بعض الشّبهات التي أثيرت حول تأبين الأموات، حيث نفى البعض تأبين العرب موتاهم في أوقات محدّدة في شبه الجزيرة العربيّة، واكتفاؤهم برثائهم بُعيد الموت، وأنّ عادة تأبين الميت عادة غريبة عن العرب، تسلّلت إليهم من عادات وتقاليد شعوب أعجميّة، وأنّ لبس الثّياب السّود عادة فرعونيّة في مصر القديمة، وأنّ الإسلام نهى عن المراثي جمعيها.
إذا نظرنا في كتب التّراث، وجدنا أنّ العرب في الجاهليّة عرفوا تأبين الأموات وكان عادة معروفة بين ظهرانيهم، ولم تكن غريبة عنهم، كما عرفوا لبس السّواد في الحداد خاصة.
فقد كان العرب يتحلّقون حول فراش الشّخص وهو على فراش الموت، ويبدأ النّعي من تلك اللّحظة، وهو ما عرف باللّغة العربيّة باسم العِداد، وفي هذا قال الشّاعر الجاهليّ أبو كَبير الهُذَليّ:
هَلْ أَنْتِ عارِفَةُ العِدادِ فَتُقْصِري؟ أمْ هَلْ أَراحَكِ مَرّة أَنْ تَسْهَري.
فَمَعْناهُ: هَلْ تَعْرِفينَ وَقْتَ وَفاتي؟ وَقالَ ابْنُ السِّكّيتِ: إِذا كانَ لِأَهْلِ الـمَيْتِ يَوْمٌ أَوْ لَيْلَةٌ يُـجْتَمَعُ فيهِ للنِّياحَةِ عَلَيْهِ فَهُوَ عِدادٌ لَـهُمْ.
وربما استمرّ النّوح عاماً كاملاً، فقد ورد في لسان العرب، مادة "سعد": أَنَّ نِساءَ الجاهِلِيَّةِ كُنَّ إِذا أُصيبَتْ إِحْداهُنَّ بِمُصيبَةٍ فيمَنْ يَعِزُّ عَلَيْها بَكَتْ حَوْلاً.
ويظهر ذلك في قَوْلِ لَبيدٍ يُخاطِبُ ابنتيه وَيَقولُ:إذا مُتُّ فَنوحا وَابْكِيا عَليَّ حَوْلاً:
فَقوما فَقولا بِالذي قَد عَلِمْتُما ولا تَخْمِشا وَجْهاً ولا تَحْلِقا الشَّعَرْ
وَقولا: هُوَ الـمَرْءُ الذي لا خَليلَهُ أَضاعَ، ولا خانَ الصَّديقَ، وَلا غَدَرْ
إِلى الحَوْلِ، ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُما ومَنْ يَبْكِ حَوْلاً كامِــلاً فَقَدِ اعْتَذَرْ.
أمّا لبس السّواد، فهو كثير في الشّواهد اللّغويّة والمرويّات، فثياب الحداد في اللّغة تسمّى السِّلاب، فالسّلاب والسُّلب ثِيابٌ سودٌ تَلْبَسُها النِّساءُ في الـمَآتِمِ. وَتَسَلَّبَتِ الـمَرْأَةُ إِذا لَبِسَتْهُ، وَهُوَ ثَوْبٌ أَسْوَدُ، تُغَطّي بِهِ الـمُحِدُّ رَأْسَها. وفي حَديثِ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّها بَكَتْ عَلى حَمْزَةَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ، وَتَسَلَّبَتْ.
وبخصوص النّواح، صحيح أنّ الإسلام نهى عن النّوح وعمّا كانت تفعله النّائحات من طقوس كشقّ الثّوب وخمش الوجوه ولطمها وضرب الجسد بالمجالد، والعويل والصّياح وغير ذلك، إلاّ أنّ العزاء بقي قائماً وبقي البكاء على الميت حالة إنسانيّة ما لم يصحبه ما يغضب الرَّب، فكانت النّسوة يبكين قتلاهنّ وأمواتهنّ في الإسلام، حتّى قال كعب بن مالك الأنصاريّ بعد استشهاد أسد الله حمزة يخاطب صفيّة، عمّة النّبيّ صلّى الله عليه وآله:
صَفِيَّةُ قومي وَلا تَقْعُـدي وَبَكِّي النِّساءَ عَلى حَمْزَهْ
كما أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله بكى حين توفّي ابنه إبراهيم وحزن وقال جملته المشهورة: تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرّب.
ثبوت زيارة الأربعين نصّاً وتاريخاً
أكّدت أحاديث الأئمّة عليهم السّلام على أهميّة زيارة الأربعين، حتى جعلها الإمام حسن بن عليّ العسكريّ عليه السّلام من سيماء المؤمن فقال: علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى وخمسين ، وزيارة الأربعين ، والتّختّم باليمين ، وتعفير الجبين.
وهذه الزّيارة رواها صفوان الجمّال عن الإمام الصّادق فقال: قال لي مولاي الصّادق تزور الحسين عند ارتفاع النّهار وتقول.. ثمّ تلا الزّيارة.
وإذا كان الباحثون قد اختلفوا، إثباتاً أو نفياً، حول رجوع السّبايا إلى كربلاء في العشرين من صفر، فإنّهم اتفقّوا جميعاً على ورود جابر بن عبد الله الأنصاريّ إلى كربلاء لزيارة أبي عبد الله الحسين عليه السّلام في ذلك التّاريخ بعد استشهاده بأربعين يوماً، بمرافقة أحد كبار التّابعين، الذي يسمّيه البعض عطيّة والبعض الآخر عطاءً، ويحتمل أنّه عطية بن حارث الكوفيّ الهمدانيّ، وهو أحد كبار التّابعين الذين سكنوا في مدينة الكوفة.
ومن المعروف أنّ جابراً، هذا الصّحابيّ المشهور، شهد جلّ المغازي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وصحبه في السّرّاء والضّراء، وروى عنه الأحاديث الصّحيحة، وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) نفسه يزور جابراً، وفي إحدى المرّات قال جابر لزوجته: لا تسألي رسول الله شيئاً. فقالت: يخرج رسول الله من عندنا ولم نسأله! فنادته: يا رسول الله صلِّ عليّ وعلى زوجي، فقال: صلى الله عليك وعلى زوجك.
وقد سمع جابر أحاديث النّبيّ صلّى الله عليه وآله في حقّ الإمام الحسين عليه السلام ولمس مكانة الحَسنين عليهما السلام من قلب المصطفى، فلا عجب أن يتوجّه هذا الصّحابيّ الجليل، على كبر سنّه، إلى كربلاء عندما سمع بما حلّ بسبط النّبيّ صلوات الله عليهما.
وعندما وصل جابر إلى كربلاء، اغتسل بماء الفرات، ثم توجّه إلى قبر الإمام الحسين عليه السلام برفقة عطيّة العوفيّ، فأجهش بالبكاء، ثمّ صاح بصوت عالٍ ثلاث مرّات: يا حُسين، يا حُسين، يا حُسين.... ثمّ قال: حَبيبٌ لا يُجيبُ حَبيبَهُ وأَنّى لَكَ بِالجَوابِ وَقَدْ شُطِحَتْ أَوْداجُكَ عَلى أَنْباجكَ، وَفُرِقَّ بَيْنَ رَأْسِكَ وَبَدَنِكَ، فَأَشْهَدُ أَنَّكَ ابْنُ النَّبِيِّينَ وَابْنُ سَيِّدِ الْمُؤْمِنِينَ وَابْنُ حَلِيفِ التَّقْوَى وَسَلِيلِ الْهُدَى وَخَامِسُ أَصْحَابِ الْكِسَاءِ وَابْنُ سَيِّدِ النُّقَبَاءِ وَابْنُ فَاطِمَةَ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ وَما لَكَ ما تَكونُ كَذَلِكَ وَقَدْ غَذَّتْكَ كَفُّ سَيِّدِ الـمُرْسَلين، وَرُبّيتَ في حجْرِ الـمُتَّقين، وَرَضعْتَ مِنْ ثَدْي الإيمانِ وَفُطِمْتَ بِالإِسْلامِ، فَطبْتَ حَيّاً وَطبْتَ مَيتاً غَيْرَ أَنَّ قُلوبَ الـمُؤْمِنينَ غَيْرُ طَيِّبَةٍ بِفِراقِكَ وَلا شاكَة في الخيرةِ لَكَ، فَعَلَيْكَ سَلامُ اللهِ وَرِضْوانُهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ مَضَيْتَ عَلى ما مَضى عَلَيْهِ أَخوكَ الـمُجْتَبى ثمّ جال ببصره حول القبر، وقال: السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَيَّتُها الأَرْواح التي حَلَّتْ بِفناءِ الحُسَيْنِ وَأَناخَتْ بِرَحْلِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّكُمْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزّكاةَ ، وَأَمَرْتُمْ بِالـمَعْروفِ وَنَهَيْتُمْ عَنِ الـمُنْكَرِ وَجاهَدْتُمُ الـمُلْحِدينَ، وَعَبَدْتُمُ اللهَ حَتّى أَتاكُمُ اليَقينُ، وَالذي بَعَثَ مُحَمَّداً بِالحَقِّ نَبِيَّاً، لَقَدْ شارَكْناكُمْ فيما دَخَلْتُمْ فيهِ).
فقال له عطيّة العوفي كيف؟ ولم نهبط وادياً ولم نعلُ جبلاً ولم نضرب بسيف والقوم قد فُرّق بين رؤوسهم وأبدانهم وأؤتمت أولادهم وأرملت الأزواج؛ فقال له جابر:(إِنّي سَمِعْتُ حَبيبي رَسولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ يَقولُ: «مَنْ أَحَبَّ قَوْماً كانَ مَعَهُمْ وَمَنْ أَحَبَّ عَمَلَ قَوْمٍ أُشْرِكَ في عملهم» والذي بعث محمّداً بالحقِّ نَبِيّاً إِنَّ نِيَّتي وَنِيَّةَ أَصْحابي على ما مَضى عَلَيْهِ الحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَأَصْحابُهُ.
هل من علاقة بين تاريخ الزّيارة والعدد "الأربعين"
أيمكن أن تكون زيارة جابر لكربلاء في ذلك التّاريخ مصادفة، أم أنّ جابراً تعمّد زيارة الإمام الحسين في اليوم الأربعين بعد استشهاده لاعتبارات تتعلّق بزمن محدّد وعدد محدّد؟ هل تناهى إلى سمعه ما رواه الأئمّة عليهم السلام نقلاً عن رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ عمّا له علاقة بالأربعين؟
يتكرّر ذكر العدد الأربعين في القرآن الكريم وفي الأحاديث الشّريفة، وكذلك في تفاسير كثيرة لآيات بيّنات عند المفسرّين على اختلاف مذاهبهم، فعلى سبيل المثال، ورد في القرآن الكريم:
﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾البقرة:51.
﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ المائدة: 26.
﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ الأعراف: 142.
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ الأحقاف: 15.
أمّا الأحاديث الوارد فيها ذكر "الأربعين"، فتكاد لا تحصى، واخترنا منها بعض ما له علاقة بالبكاء على الميت:
- عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحاً.
- عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) أنّه قال: إنّ السّماء بكت على الحسين أربعين صباحاً.
- عن الإمام الصّادق(عليه السلام) أنّه قال: إنّ السّماء بكت على الحسين أربعين صباحاً بالدّم، والأرض بكت عليه أربعين صباحاً بالسّواد، والشّمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، والملائكة بكت عليه أربعين صباحاً، وما اختضبت امرأة منّا ولا ادّهنت ولا اكتحلت ولا رجّلت حتّى أتانا رأس عبيد الله بن زياد وما زلنا في عبرة من بعده.
وفي تفسير آيات القرآن الكريم نجد تكراراً للعدد "الأربعين"، عند المفسّرين المسلمين، شيعة وسنّة، من ذلك ما رواه الطّباطبائيّ عند الحديث عن مقتل ابن آدم(عليه السلام) على يد أخيه وشرح الأسباب والنتّائج، في الآيات: 27، 28، 29، 30، 31 في سورة المائدة:«انصرف آدم يبكي على هابيل أربعين يوماً وليلة».
ومما قاله الماورديّ في "النّكت والعيون" في قوله تعالى: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِم السَّمَاءُ وَالأَرْضُ﴾ الدّخان/29: «أنّ السّماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحاً ؛ قاله مجاهد».
ومن لطائف المعارف التي أوردها وِل ديورانت Durant Will في موسوعة: قصّة الحضارة في حديثه عن زراعة الزّيتون في اليونان القديمة:«أنّ شجرة الزّيتون لا تُؤتي أُكلها إلّا بعد ستّة عشر عاماً من زرعها، ولا يُكتمل نُموّها إلّا بعد أربعين».
هدم قبر الحسين(عليه السلام) وتبيان موضعه بعد أربعين يوماً
عندما هَدم المتوكل القبر الشّريف، ظنّ وأعوانه أنهم بهذه الطّريقة سيحولون بين النّاس وبين زيارة الإمام الحسين عليه السّلام.
صحيح أنّ رجال المتوكّل منعوهم من الاقتراب من ذلك الموضع الشّريف، ونكّلوا بمن تحدّاهم، إلاّ أنّ العناية الإلهيّة تدخّلت فلم يندرس المكان، وعُرف موضع دفن الإمام عليه السّلام، فقد ذكر ابن كثير(ت 774 هـ) في البداية والنّهاية، ج11/580:«أنّ الماء لـمّا أُجري على قبر الحسين لِيُمَحى أثره نضب الماء بعد أربعين يوماً، فجاء أعرابيّ من بني أسد، فجعل يأخذ قبضة قبضة ويشمّها حتى وقع على قبر الحسين، فبكى وقال:بأبي أنت وأمي، ما كان أطيبك وأطيب تربتك!! ثم أنشأ يقول:
أَرادوا لِيَخْفوا قَبْرَهُ عَنْ عَدُوِّهِ فَطيبُ تُرابِ القَبْرِ دَلَّ عَلى القَبْرِ»
ويروي الأصفهانيّ(ت 356هـ) في مقاتل الطالبيّين، ضمن "ذكر أيّام المتوكّل ومن ظهر فيها فقتل أو حبس" فيقول:«(...) محمد بن الحسين الأشنانيّ، قال:بَعُدَ عهدي بالزّيارة في تلك الأيّام خوفاً، ثمّ عملت على المخاطرة بنفسي فيها، وساعدني رجل من العطّارين على ذلك، فخرجنا زائرين نكمن النّهار ونسير اللّيل حتّى أتينا نواحي الغاضريّة، وخرجنا منها نصف اللّيل فسرنا بين مسلحتين، وقد ناموا، حتّى أتينا القبر فخفي علينا، فجعلنا نشمّه ونتحرّى جهته حتّى أتيناه، وقد قلع الصّندوق الذي كان حواليه وأُحرق، وأُجري الماء عليه فانخسف موضع اللِّبن وصار كالخندق، فزرناه وأكببنا عليه، فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها قط كشيء من الطّيب، فقلت للعطّار الذي كان معي: أيّ رائحة هذه؟ فقال:لا والله ما شممت مثلها كشيء من العطر، فودّعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدّة مواضع.
فلمّا قُتل المتوكّل اجتمعنا مع جماعة من الطّالبيين والشّيعة حتّى صرنا إلى القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه».
زيارة الحسين(عليه السلام) والحراك السّياسيّ والثّوريّ
بعد قدوم جابر الأنصاريّ كربلاء وزيارته قبر الحسين عليه السّلام، أضحت زيارة سيّد الشّهداء سنّة متّبعة على مدار العام، وتحديداً في عاشوراء وفي العشرين من صفر من كلّ عام. وعلى الرّغم من القمع ومحاولة منع النّاس من إتيان مشهده في العصر الأمويّ، وتَفاوُت ذلك في العصر العبّاسيّ بحسب علاقة الحّكام العبّاسيّين بالطّالبيّين، فإنّ الموالين لأهل البيت(عليهم السلام) والعارفين حقّهم وكرامتهم، ظلّوا يفدون إلى كربلاء لزيارة الإمام الحسين(عليه السلام) إلى أن هدم القبر ومُنع النّاس من الاقتراب من ذلك الموضع الشّريف، وبعد موت المتوكّل أعيد بناؤه، وأخذ الناس يزورونه زرافات زرافات، ولا سيّما أنّ الأئمّة عليهم السّلام أكّدوا على زيارته، وأقوالهم في ذلك كثيرة، منها على سبيل المثال:
-عن أبي عبد الله (ع) قال:"زوروا كربلاء ولا تقطعوه فإنّ خير أولاد الأنبياء ضمنته ألا وإنّ الملائكة زارت كربلاء ألف عام من قبل أن يسكنه جدّي الحسين (عليه السلام) وما من ليلة تمضي إلاّ وجبرئيل وميكائيل يزورانه فاجتهد يا يحيى ألاّ تفقد من ذلك الموطن".
-وعنه عليه السّلام عندما سأله حنان بن سدير عن زيارة الحسين (عليه السلام)، قال: زره ولا تجفه فإنّه سيّد الشّهداء، وسيّد شباب أهل الجنّة، وشبيه يحيى بن زكريّا، وعليهما بكت السّماء والأرض.
ولولا زيارة الحسين(عليه السلام) التي أضحت سنّة متّبعة، ولولا تلك الحشود التي تفد إلى كربلاء لتستذكر الفاجعة الأليمة ومضامين الثّورة الحسينيّة، لكانت أهداف الحسين عليه السّلام، التي دفعته إلى الثّورة ضد الحكم الفاسد والجائر، في طي النّسيان، ولكان النّاس اعتادوا على الخضوع والذّلّ، ولم يجرؤ أحد على التّحرّك.
وفي العراق، كان النّظام السّابق يخشى تجمّع النّاس في كربلاء، في المحرّم وغيره، لذلك منعهم من التّظاهر أو من التّجمّع الذي تشهده كربلاء اليوم في ذكرى عاشوراء وفي الأربعين، وما ذلك إلاّ لمعرفته أنّ الوفادة على الحسين(عليه السلام) يعني استنهاض الهمم، ودفع الظلم.
ولم تقصر أصداء الثّورة الحسيّنيّة على العالم الإسلاميّ، إنمّا امتدّت إلى شعوب كانت تتوق إلى الحريّة والتّخلّص من نير الاحتلال، حتى قال المهاتما غاندي (قتل في30 كانون الثاني من عام 1948م) "تعلمت من الحسين أن أكون مظلوماً فأنتصر".