لئن كان أبو مسلم الخراساني، وأبو عبيد الله السفاح العباسي قد استطاعا أن يقضيا على دولة الخلافة الأموية بدمشق سنة 132هـ، فإن هذه الخلافة المنهارة قد نبتت لها بذرة غريبة الشكل والتكوين في أرض تفصلها عن العباسيين بحار، وآلاف الأميال.
وقد استطاع عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، " عبد الرحمن الداخل" أن يكون هو الفارس لهذه النبتة في الأندلس، بعد مطاردة عنيفة تصلح أن تكون عملا روائيًا عظيمًا، حيث نجح في أن يهرب أمام الجنود العباسيين حتى وصل إلى فلسطين، ومنها إلى مصر، ثم إلى المغرب بعد خمس سنوات من التجول والتخفي عن عيون العباسيين.
كان يحكم الأندلس آنذاك يوسف بن عبد الرحمن الفهري نيابة عن العباسيين، وقد حاول الفهري مقاومة تسلل وتجمعات عبد الرحمن الداخل لكنه لم يستطع، ودخل عبد الرحمن قرطبة وأسس للأمويين الذين سقطوا في دمشق على يد العباسيين، ملك جديد في الأندلس الإسلامية.
عاش عبد الرحمن الداخل يبني ويقوي من دعائم دولته أكثر من ثلاثين سنة بعد ذلك، فلما مات سنة 172هـ ترك وراءه دولة قوية البنيان توارثها أبناؤه من بعده... تولاها هشام ابنه، ثم عبد الرحمن الثاني، إلى أن وصل الأمر إلى عبد الرحمن الثالث الملقب بالناصر، الذي اعتبر عهده قمة ما وصلت إليه الأندلس الأموية من ازدهار وتقدم.
وقد دام حكم الناصر هذا نصف قرن من الزمان.. نعمت الأندلس فيه بخير فترات حياتها في ظلال الإسلام، وطلبت ودها المماليك النصرانية المحيطة بها، وأصبحت قرطبة، والمدن الأندلسية الأخرى كعبة العلوم ومقصد طلاب العلم، وعواصم الثقافة العالمية الراقية.
وفي سنة 350هـ مات عبد الرحمن الناصر هذا، فتربع على عرش الأندلس من بعده ولده الحَكم، ثم حفيده هشام المؤيد الضعيف الذي تسلط عليه الحجاب، وأبرز هؤلاء الحجاب المنصور محمد بن أبي عامر، الذي حكم باسم الأمويين بمعونة "صبح" أم الخليفة "هشام " وتمكن من تحويل الخلافة لنفسه ولأبنائه مدة قصيرة، مكونًا خلالها الدولة المنسوبة إليه، والمسماة بالدولة العامرية.
ثم عادت أمور الأمويين إليهم فترات قصيرة قلقة، إلى أن قُضي عليهم قضاءً أخيرًا في الأندلس سنة 422هـ بعد حياة دامت قريبًا من ثلاثة قرون، وعلى أنقاضهم قامت مجموعة دويلات هزيلة في الأندلس عرف عهدها بعهد ملوك الطوائف، الذي كان من أكثر عهود المسلمين في الأندلس تفككًا وضعفًا وانحدارًا نحو هاوية السقوط.
في ذلك العهد قُسِّمَتْ بلاد الأندلس إلى اثنين وعشرين حاكمًا في اثنتين وعشرين دويلة وقد انقسم هؤلاء الحكام إلى بربر وصقالبة وعرب، وأشهرهم بنو عَبَّاد في إِشْبِيلِيَة، وبنو زيري في غَرناطة، وبنو جهور في قُرْطُبَة، وبنو الأفطس في بَطَلْيُوس وبنو ذي النون في طُلَيْطِلَة وبنو عامر في بَلَنْسِيَة، وبنو هود في سَرَقُسْطَة، وكانت بينهم حروب قومية لم يُخمد أوارها طيلة السنوات التي حكموا فيها، فتحول صرح الخلافة الشامخ إلى بنيان متصدِّع الأركان، متناثر الأشلاء، ولو أن هؤلاء المتغلبين سكنوا إلى ما تغلَّبُوا عليه، ورضوا به من غير طمع ولا جشع، وتحلَّوْا بالنخوة الإسلامية لهان الأمر علينا، ولسكن الناس إلى ما آلت إليه الأندلس المسلمة، ولكن يبدو أن هؤلاء الثائرين ومن هم على شاكلتهم قد آثروا الفتنة والشقاق والفراق، واستحلُّوا دماء المسلمين بأرخص الأثمان، فباعوا دينهم وخسروا دنياهم، مقابل أن يتغلَّب على أخيه في الدين، وربما أخيه من أمه وأبيه، بل ربما استعان على أبيه وأخيه وعمه وأهله جميعًا.
وقد سلك هؤلاء المتغلِّبُون المتحكِّمُون في أراضي المسلمين في الأندلس كل السبل غير الشرعية، التي تُعَبِّر عن النذالة والخسَّة التي تمتَّع بها معظمهم، فاستعانوا بالخيانة والغدر، كما استعانوا بالنصارى على بعضهم البعض، ورضوا بالذلَّة والمهانة في دفع الجزية والإتاوات مقابل النيل برضا الممالك النصرانية الإسبانية، وهكذا أضحت الأندلس مسرحًا للصراعات بين المتخاصمين والمتنابذين؛ تلك الصراعات التي شَكَّلَتْ قصَّةَ مأساةٍ عاشتها أمَّة الإسلام ما يقارب القرن من الزمان.
ولا يستطيع المرء أنْ يزعم أنَّ باستطاعته أن يحصي كل مساوئ الفترة المسماة بفترة ملوك الطوائف، وليس هناك تعبير بليغ في وصف حال تلك الممالك وأصحابها، بقدر ما قاله الوزير العالم الأديب لسان الدين بن الخطيب؛ إذ يقول: «وذهب أهل الأندلس من الانشقاق والانشعاب والافتراق إلى حيث لم يذهب كثيرٌ من أهل الأقطار، مع امتيازهم بالمحلِّ القريب، والحطَّة المجاورة لعُبَّاد الصليب، ليس لأحدهم في الخلافة إرثٌ، ولا في الإمارة سَبَب، ولا في الفروسية نَسَب، ولا في شروط الإمامة مُكْتَسَب، اقتطعوا الأقطار، واقتسموا المدائن الكبار، وجَبَوُا العَمالات والأمصار، وجنَّدُوا الجنود، وقدَّموا القضاة، وانتحلوا الألقاب، وكَتَبَتْ عنهم الكُتَّاب الأعلام، وأنشدهم الشعراء، ودُوِّنَتْ بأسمائهم الدواوين، وشَهِدَتْ بوجوب حقِّهم الشهود، ووقفت بأبوابهم العلماء، وتوسَّلت إليهم الفضلاء، وهم ما بين مجبوب، وبربري مجلوب، ومجنَّد غير مَحْبُوب، وغُفْلٍ ليس في السُّراة بمَحْسُوب، ما منهم مَنْ يرضى أن يُسَمَّى ثائرًا، ولا لحزب الحقِّ مُغَايرًا، وقُصارى أحدهم أن يقول: «أُقيمُ على ما بيدي، حتى يتعيَّن مَنْ يستحقُّ الخروجَ به إليه».
تلك هي ممالك الطوائف أُسَرٌ متغلِّبَة وأخرى مغلوبة، ليس لهم من الأمر إلا دفع الجزية للنصارى الكافرين، والتسلُّط على أراضي إخوانهم المسلمين، ولقد استفحل الخلاف والتنافس بين هؤلاء الملوك، كما استفحل كذلك ضعف كل منهم، وكان من نتائج ذلك أنْ طمع النصارى في مدينة إشبيلية وفي المدن الأندلسية الأخرى.
كان ملك إشبيلية المعتمد بن عباد هو أول من تنبه للخطر، فمضى يحشد القوى ويستنهض العزائم، ويطلب الدعم ممن حوله لمقاومة الخطر حين رأى دنوه من أبواب المسلمين، ولم يكن أمام المعتمد بن عباد من مخرج غير الاستعانة بزعيم المرابطين وأمير المسلمين في المغرب يوسف بن تاشفين، وعلى الرغم من أن بعض زعماء الطوائف رفض فكرة استنجاد المعتمد بابن تاشفين إلاَّ أنْ الله ألهم المعتمد بهذه العزيمة والإصرار، وقال كلمته الخالدة التي صارت مثلاً: " لأن أرعى الجمال في صحراء العرب خير من أرعى الخنازير في أرض الصليبيين".
أسرع يوسف بن تاشفين لتلبية نداء المسلمين، فأَعَدَّ العُدَّة وجهَّز السفن، وتقدم وعبر البحر وجبل طارق لنجدة المسلمين في الأندلس، وحقق انتصارًا كبيرًا وساحقًا على النصارى في معركة الزلاقة سنة 479 هـ= 1086م، وبعد المعركة عاد يوسف بن تاشفين إلى بلاد المغرب بعد أن جمع ملوك الأندلس وأَمَرَهم بالاتفاق، وإطراح التنابذ والتخاصم حتى لا يُضيعوا بحماقاتهم ثمار هذا النصر.
ظلَّ الصراع بين المسلمين والنصارى قائمًا بعد الزلاقة، بل لقد كثر عيث النصارى في بلاد المسلمين، وتخريبهم لها، كذلك لم تنته الصراعات بين ملوك الطوائف، وتمردهم ونفاقهم، وجنوحهم إلى النصارى، عندئذ تبين ليوسف بن تاشفين أن ملوك الطوائف هؤلاء ليسوا أهلا للبقاء في مراكز السلطة في الأندلس، وجاءته النداءات والفتاوى من العلماء بوجوب الاستيلاء على الأندلس، فاعتزم يوسف بن تاشفين أمره في افتتاح ممالك الطوائف، وأخذ يستولي عليها تباعًا، وأرسل إلى بغداد طلبًا للخليفة ليحصل على كتاب منه بتوليته المغرب والأندلس، وبالفعل حصل على المرسوم الخلافي وإلى جانبه حصل على سند شرعي يُبَرِّر تصرُّفه نحو أولئك الأمراء.
لم يكن دخول يوسف بن تاشفين الأندلس أمرًا سهلًا، فقد حاربه الأمراء هناك بما فيهم المعتمد بن عباد، واستعرت نار الحرب بين المرابطين وملوك الطوائف، وانتهت بضمِّ كل ممالك الأندلس إلى دولة المرابطين تحت زعامة يوسف بن تاشفين، وهذه هي النتيجة الطبيعية لكل ملوك طوائف في كل عصر، فالذين يتخاذلون ويتعاونوا مع الأعداء مضحين بكرامة دينهم ووجود أمتهم سوف يصيبهم الذل من حيث لا يشعرون، ولقد نسي ملوك الطوائف هذه الحقائق، فنغص الله كل شيء عليهم.. فتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا[1].
[1] دكتور عبد الحليم عويس: دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية، ودكتور راغب السرجاني: قصة الأندلس.