تعد اللوحة الفنية خطابا تواصليا، ذا حمولة دلالية، تعبر عن آمال وآلام الشعوب، وبحكم طبيعتها البصرية فهي لا تكتفي بإظهار ما هو مرئي؛ بل تحرك في المتلقي التصور الدلالي الذي تفرضه المتعة.
وفي المواكبة والتتبع يعد النقد الفني جزءا من فعاليات الثقافة العربية ومن مشهديتها المرتبطة بالتطورات التي تطرأ على بنيتها من حين إلى آخر؛ على اعتبار أن النقد الفني قيمة موازية للمنتج البصري؛ الذي هو جوهر المادة النقدية والدافع الأساس لوجود النقد وتحقيق رسالته المعرفية وبناء أدواته وتقنياته للعب الدور المؤمل منه على المستويين الجمالي والفكري.
وبحكم أن الحركة التشكيلية حديثة العهد في البلاد العربية لم تواكبها حركة نقدية جادة تسجل حركية المدارس الفنية (تأثيرية، تكعيبية، سريالية ...) كما الأدب العربي، مما يفتح المجال لفئات مختلفة من النقاد.
منهم من اختبأ وراء جدار التدريس الأكاديمي وتفضيله دور التثقيف الفني ورفع الذائقة عبر النقل الديدكتيكي للمادة الفنية بتقديم البحوث والدراسات، مما ساهم في غياب النقد الفني الميداني الجاد الذي تحتاجه الساحة الفنية.
ومنهم منعدمي التخصصية العلمية في تناول الفن نقديا؛ لم يجازفوا للأسف بالدخول إلى طبيعة الذاكرة والخيال عند الفنان، وأن يكون لهم بعض الاهتمام السيكولوجي في معالجتهم للمحتويات المادية والحلمية لعمل الفنان، إذ تقتصر معالجاتهم على الجانب اللغوي، كون أغلبهم جاء من الأدب، أما ما يسمى بالمستوى الكامن والمتمثل بالرموز فإنهم يبتعدون عنه بسبب جهلهم لمفردات النقد الفني؛ فيكتفون بالتعبير عن العمل الفني بالجيد والرديء دون تقديم مبررات عن مكامن الجودة والرداءة في العمل الفني، مما أسهم في تسطيح تذوق المتلقي بصريا وثقافيا، بل أكثر من هذا انصرف الكثير منهم إلى تلميع بعض الأعمال الفنية بغرض إرضاء الزمالة والشللية (critique de camaraderie)
وهناك فئة ثالثة من النقاد باتوا يكتبون عن فنانين بمقابل مادي؛ وفق مبدأ تقاسم المنفعة المادية، وبذلك تتفاوت درجات تلميع اللوحة الفنية بحسب ما يقدمه الفنان للناقد من إغراءات مالية؛ لأن هكذا ناقد لا يقيس العمل الفني بمعيار الجودة والندرة؛ وإنما بمدى خضوعه لمضاربات البورصة والقيمة الشرائية وتقلبات الأسواق المالية؛ فلم يعد المال جزء من العملية الفنية بل أصبح اليوم كل العملية؛ وبات الجانب الاقتصادي هو الرأس المحرك للقيمة الفنية.
وبالرغم من انتشار مثل هؤلاء النقاد كالنار في الهشيم فقد ظهرت نخبة من المقتنين الذين يمكن تسميتهم ب(المشتري الحذر) الذي لا تغريه البرامج التعريفية بالفنانين؛ ولا يهتم بالإعلانات والكتالوجات؛ ولا تغريه تخفيضات الأسعار؛ وإنما ينصب اهتمامه بما تقدمه اللوحة الفنية من إلهام وجمال.
وقد ساعد في ظهور هذا النوع من المقتنين للوحات الفنية كتابات النقاد الجادين الذين يمتلكون صورا مجازية متعددة حين يقفون أمام عمل الفنان؛ والإحساس المرهف؛ ونفاذ البصيرة النقدية والذكاء والمعرفة والمهارة وأيضا القدرة على الكتابة.
ويضعون همزة وصل بين العمل الفني وتقويمه إلى متذوقيه أولا، بدون تعسف وبدون محاباة ولكن بحيادية تدعو الجميع إلى الاقتراب للعمل الفني، بالابتعاد عن منح الأحكام أو تقديم الإطراءات الساذجة، وقطع المسافات الشاسعة في الكتابة لأجل خلق التباين والبحث عن التشابه مع أذواق البعض، لأن العملية الفنية هي بالأساس عملية تقويم أخلاقي للتجربة الإنسانية بواسطة تقنيات تجعل من الممكن إجراء تقويم نقدي، فما دام الفن أخلاقيا لابد من أن يكون النقد مثله بالضرورة كما يقول (نورتروب فراي)، ولا يتحقق مثل هذا الطموح إلا من خلال مطالبة المشاهد للعمل الفني أن يشارك في إضفاء كل الدلائل على العمل الذي يراه، أي بمعنى آخر إشراك الجمهور المتلقي في العثور على المعنى الذي بالكاد يكون أحيانا مخبوءا في ثنايا العمل الفني.
وللوصول إلى مثل هكذا نقد لابد من الاستفادة من التجربة النقدية الغربية، لأن الاستفادة من المناهج النقدية ضرورة فرضتها المراحل التي نما فيها الفن التشكيلي الغربي، فالناقد الغربي استطاع أن يغني نفسه وفكره بوفرة ما توفر له من تاريخ عريق تأسس على رؤية معاصرة لم تلغ السابق تماما، بل سعى الناقد في فهم الحداثة في الفن للإفادة منها لخلق روح تتوسط بين ما هو موروث وبين أفق الحداثة التي أطلقت النار على الفن التقليدي وآلياته المتبعة وموضوعاته وما واجهه من عمليات تحديث في ضوء منظور تطوري جمالي مستند لقاعدة من القيم الفكرية