من أهم ما أثمرته الدراسات البلاغية الحديثة النظرةُ السياقية للغة، فالدلالة ابنة السياق، والكلمة يتحدد معناها وفق السياق الذي وردت فيه، ولعل هذا هو أحد الجوانب الدلالية التي وقف عليها السابقون فسبقوا بها النظريات اللغوية الحديثة.
فالكلام عن المقام ومراعة الحال قديم في تراثنا العربي، والكلام عن المعنى ومعنى المعنى قديم أيضا، فقد ننجز أفعالا بغير الطلب، فالجملة الخبرية تحمل هذه الدلالة الطلبية من خلال الاستعمال التداولي السياقي.
فحينما أعود مريضا وأقول أمامه "الحمد لله" أطلب منه بطريقة غير مباشرة أن يحمد الله تعالى، وهو يردد الحمد دون أن أطلبه منه، وكذلك أقول له" قدر ولطف" فيردد هو أيضا الحمد، ويستقر في ذهنه أن هذا عطاء الله تعالى كله خير.
ولعل هذا ما ينتجه استعمال النص المجرب سلفا، سواء كان قرآنا أو حديثا أو مثلا أو شعرا أو حكمة، فتستطيع من خلال قراءة آية من القرآن أن توصل رسالة تحمل طلبا ضمنيا، فحينما ترى أحدا يحاول أن يعتدي على حق أحد، تردد أمامه قوله تعالى"إنما المؤمنون إخوة" فهذه الآية في هذا السياق تحمل دلالة الطلب، أي هذا العمل الذي تفعله لا يتناسب مع الإخوة التي أرادها الله فامتنع عنه.
وجملة "لا أشهد على جور" التي رد بها النبي صلى الله عليه وسلم على النعمان بن بشير حينما نحل أحد أبنائه دون الآخرين وأراد أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين له شناعة هذا الفعل، فاستخدم هذه الجملة الخبرية التي تحمل دلالة الطلب، (فلا تجر) أو (اعدل) .
وهذه الدلالت الثواني أو معنى المعنى هو ما وقف عليه عبد القاهر الجرجاني، وهو أصل البلاغة، أو هو غاية البلاغة، فالبلاغة هي التفنن والتأنق في التعبير الذي يحمل المتلقي إلى الوقوف على هذه المعاني.