الكناية ظاهرة من ظواهر استعمال اللغة المرتبطة بالظروف الاجتماعية والثقافية والحضارية، التي لا تقف فيها اللغة عند حدود المعنى الحرفي بل تتجاوزه إلى المعاني المضمَّنة، وهذه المعاني المضمَّنة التي تعد جوهر الظاهرة البلاغية كثيراً ما تكون وليدة السياقات الثقافية والاجتماعية.
ومن ثم فإن الوقوف على المعنى المراد في التعبير الكنائي يحتاج إلى معرفةٍ بالسياق الثقافي والاجتماعي الذي ولدت فيه الكناية.
والذي يحتاج أن نقف عليه وقوف تأمل هو أن الاستعمال الكنائي للغة استعمال فطري، أي إن الإنسان بطبعه يميل إلى هذا الاستعمال الكنائي، برغم عدم إلمامه -أحيانا- بعلوم العربية، وهذا ما يدفعنا للتساؤل بـ لماذا؟
الأم حينما يسألها أحد عن صحة ابنها تقول" وجهه أصفر" " دماغه بتغلي" "عينه مغربة" " عينه مزغللة" "هفتان" "ضعفان" فكل هذه كنايات عن المرض.
وقد تقول:" وجهه رادد" "الدم بيجري في عروقه" "عينه رايقة" "وجهه منور" "عيني عليك بارده" وهذه كنايات عن تمام الصحة وسلامتها.
والأم حينما تلجأ إلى الكناية هو بجانب كونه لجوءا فطريا إلا أنه لجوء مبرر، فهي اندفعت إليه لكونه أقدر على التعبير عن الحقيقة بأسلوب يستدل منه المتلقي، فيصل إلى النتائج من خلال المقدمات.
لأنها أظهرت من خلال الكناية مدى تأثير المرض عليه، كما عبرت من خلالها عن تأثير الصحة عليه.
ومن الكنايات التي كنت أسمعها في قريتي" خميسه في السبت" وهي كناية عن تأخر صحة الشخص واقترابه من الموت، فالخميس هو خامس أيام الميت في القبر، وكان من عادة الأقارب أن يذهبوا لأهل الميت بـ(سبت) أي وعاء فيه (دقيق وأرز وزيت وبعض البقول) وكانوا يعدون ذلك بعد موته مباشرة ، فحينما يقولون عنه إننا أعددنا له (خميسه) ففي ذلك كناية عن سوء حالته الصحية.
كما أن اللجوء للكناية قد يكون للخوف أو التلطف أو الابتعاد عن المعاني الصادمة، كأن تقول لمن يسألك عن أخيك: "زي الحصان" فأنت لم تجبه فقط بل أوضحت له مدى ما يتسم به من الصحة والعافية، وتركت له مجالات لتتبع الدلالات الثواني.
ومن باب التلطف والتأدب جاءت كنايات القرآن التي عبرت عن علاقة الرجل بالأنثى"المس" "الإفضاء" "الاقتراب""المواعدة" .
وكذلك استخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكناية عن هذه العلاقة، إلا أنه حينما لجأ إلى استخدام اللفظ الصريح ، كان دافعه هو كون الكناية غير قادرة على التحديد الجازم للدلالة، وذلك لتعلق الأمر بالحدود، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ» قَالَ: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «أَنِكْتَهَا». لاَ يَكْنِي، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ .