قصة عبد الله بن أم مكتوم
من هذا الذي عوتب فيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من فوق سبع سماوات أقسى عتاب وأوجعه ، من هذا الذي نزل بشأنه جبريل الأمين على قلب النبي الكريم بوحي من عند الله ؟ إنه عبدالله بن أمِّ مكتوم مؤذن الرسول صلوات الله وسلامه عليه .
وعبدالله بن أم مكتوم مكي قرشي تربطه بالرسول عليه الصلاة والسلام رحم ، فقد كان ابن خال أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضوان الله عليها ، أما أبوه فقيس بن زائدة وأما أمه فعاتكة بنت عبدالله ، وقد دعيت بأم مكتوم لأنها ولدته أعمى مكتوماً .
شهد عبدالله بن أم مكتوم مطلع النور في مكة فشرح الله صدره للإيمان وكان من السابقين إلى الإسلام ، عاش ابن أم مكتوم محنة المسلمين في مكة بكل ما حلفت به من تضحية وثبات وصمود وفداء وعانى من أذى قريش ما عاناه أصحابه وبلا من بطشهم وقسوتهم ما بلوه ، فما لانت له قناة ولا فترت له حماسة ولا ضعف له إيمان وإنما زاده ذلك استمساكاً بدين الله وتعلقاً بكتاب الله وتفقهاً بشرع الله وإقبالاً على الرسول صلوات الله وسلامه عليه .
وقد بلغ من إقباله على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وحرصه على حفظ القرآن العظيم أنه كان لا يترك فرصةً إلا اغتنمها ولا سانحةً إلا ابتدرها بل كان إلحاحه على ذلك يغريه أحياناً بأن يأخذ نصيبه من الرسول صلى الله عليه وسلم ونصيب غيره .
وقد كان الرسول صلوات الله عليه في هذه الفترة كثير التصدي لسادات قريش شديد الحرص على إسلامهم فالتقى ذات يوم بعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة بن ربيعة وعمرو بن هشام المكنى بأبي جهل وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة والد سيف الله خالد .
وطفق يفاوضهم ويناجيهم ويعرض عليهم الإسلام وهو يطمع في أن يستجيبوا له أو يكفُّو أذاهم عن أصحابه ، وفيما هو كذلك أقبل عليه عبدالله بن أم مكتوم يستقرئه آيةً من كتاب الله ويقول : يا رسول الله علمني مما علمك الله فأعرض الرسول الكريم عنه وعبس في وجهه وتولى نحو أولئك النفر من قريش وأقبل عليهم أملاً في أن يسلموا فيكون في إسلامهم عز لدين الله وتأييد لدعوة رسوله .
وما إن قضى رسول الله صلوات الله عليه حديثه معهم وفرغ من نجواهم , وهمّ أن ينقلب إلى أهله حتى أمسك الله عليه بعضاً من بصره وأحس كأن شيئاً يخفق برأسه ( يضرب رأسه ) ثم أنزل عليه قوله : (( عَبَسَ وَتَوَلّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى*أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى*وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى *كلا إِنهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شاءَ ذَكَرَهُ * فى صحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطهَّرَةِ * بأيدي سفره * كرام بررة )) .
ست عشرة آية نزل بها جبريل الأمين على قلب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في شأن عبدالله بن أم مكتوم لا تزال تتلى منذ نزلت إلى اليوم وستظل تتلى حتى يرث الله الأرض ومن عليها ومنذ ذلك اليوم ما فتىء الرسول صلوات الله عليه يكرم منزل عبدالله بن أم مكتوم إذا نزل ويدني مجلسه إذا أقبل , ويسأله عن شأنه ويقضي حاجته ولا غرو أليس هو الذي عوتب فيه من فوق سبع سماوات أشد عتاب وأعنفه .
ولما كلبت ( أشتدت عليهم وألحت في أذاهم ) قريش على الرسول والذين آمنوا معه واشتد أذاها لهم أذن الله للمسلمين بالهجرة فكان عبدالله بن أم مكتوم أسرع القوم مفارقة لوطنه وفراراً بدينه فقد كان هو ومصعب بن عمير أول من قدم المدينة من أصحاب رسول الله ، وما إن بلغ عبدالله بن أم مكتوم يثرب حتى طفق هو وصاحبه مصعب بن عمير يختلفان إلى الناس ويقرءان القرءان ويفقهانهم في دين الله .
ولما قدم الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة اتخذ عبدالله بن أم مكتوم وبلال بن رباح مؤذنين للمسلمين يصدعان بكلمة التوحيد كل يوم خمس مرات ويحضانهم على الفلاح ، فكان بلال يؤذن وابن أم مكتوم يقيم الصلاة وربما أذن أبن أم مكتوم وأقام بلال .
وكان لبلالٍ وابن أم مكتوم شأن آخر في رمضان فقد كان المسلمون في المدينة يتسحرون على أذان أحدهما ويمسكون عند أذان الآخر كان بلال يؤذن بليلٍ ويوقظ الناس وكان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فلا يخطئه وقد بلغ من إكرام النبي عليه الصلاة والسلام لابن أم مكتوم أن استخلفه على المدينة عند غيابه عنها بضع عشرة مرة كانت إحداهما يوم غادرها لفتح مكة .
وفي أعقاب غزوة بدر أنزل الله على نبيه من آيِ القرآن ما يرفع شأن المجاهدين ويفضلهم على القاعدين لينشط المجاهد إلى الجهاد ويأنف القاعد من القعود فأثّر ذلك في نفس ابن أم مكتوم وعز عليه أن يُحرم من هذا الفضل وقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، ثم سأل الله بقلب خاشع أن ينزل قرآناً في شأنه وشأن أمثاله ممن تعوقهم عاهاتهم عن الجهاد .
وجعل يدعوا في ضراعةٍ : اللهم أنزل عذري ، اللهم أنزل عذري فما أسرع أن استجاب الله جل وعز لدعائه ، حدّث زيد بن ثابت كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : كنت إلى جنب الرسول صلوات الله عليه ، فغشيته السكينة فوقعت فخذه على فخذي فما وجدت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام ثم سري عنه ( كشف عنه ما نزل به من شدة الوحي وثقله ) .
فقال : اكتب يا زيد فكتبت : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله ) فقام ابن أم مكتوم وقال : يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد ؟ فما انقضى كلامه حتى غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة فوقعت فخذه على فخذي فوجدت من ثقلها ما وجدته في المرة الأولى ثم سري عنه .
فقال : اقرأ ما كتبته يا زيد فقرأت ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين ) فقال : اكتب ( غير أولي الضرر ) فنزل الاستثناء الذي تمناه ابن أم مكتوم وعلى الرغم من أن الله سبحانه أعفى عبدالله بن أم مكتوم وأمثاله من الجهاد فقد أبت نفسه الطموح أن يقعد مع القاعدين وعقد العزم على الجهاز في سبيل الله ذلك لأن النفوس الكبيرة لا تقنع إلا بكبار الأمور فحرص منذ ذلك اليوم على ألا تفوته غزوة وحدد لنفسه وظيفتها في ساحات القتال .
فكان يقول : أقيموني بين الصفين وحملوني اللواء أحمله لكم وأحفظه فأنا أعمى لا أستطيع الفرار وفي السنة الرابعة عشرة للهجرة عقد عمر بن الخطاب العزم على أن يخوض مع الفرس معركة فاصلة تديل دولتهم وتزيل ملكهم وتفتح الطريق أمام جيوش المسلمين .
فكتب إلى عماله يقول : لا تدعوا أحداً له سلاح أو فرس أو نجدةٌ أو رأيٌ إلا انتخبتموه ثم وجهتموه إلي والعجل العجل وطفقت جموع المسلمين تلبي نداء الفاروق وتنهال على المدينة من كل حدب وصوب وكان في جملة هؤلاء المجاهد المكفوف البصر عبدالله بن أم مكتوم .
فأمر الفاروق على الجيش الكبير سعد بن ابي وقاص وأوصاه وودعه ولما بلغ الجيش القادسية ، برز عبدالله بن أم مكتوم لابساً درعه مستكملاً عدته وندب نفسه لحمل راية المسلمين والحفاظ عليها أو الموت دونها والتقى الجمعان في أيام ثلاثة قاسية عابسة واحترب الفريقان حرباً لم يشهد لها تاريخ الفتوح مثيلاً .
حتى انجلى اليوم الثالث عن نصر مؤزر للمسلمين فدالت دولة من أعظم الدول وزال عرش من أعرق عروش الدنيا ورفعت راية التوحيد في أرض الوثنية وكان ثمن هذا النصر المبين مئات الشهداء وكان بين هؤلاء الشهداء عبدالله بن أم مكتوم فقد وجد صريعاً مضرجاً بدمائه وهو يعانق راية المسلمين .