معالجة ومراجعة لقضية من أهم القضايا في الفكر النحويّ هي قضية أصول النحو التي لم تجد قبل هذا العمل تمحيصًا وتدقيقًا يشفي النفس ويرضي العقل، ويأتي هذا العمل نتيجة كفاح وجهد عظيم بذله الباحث الجسور الصبور.
وأما القياس في أبسط أحواله فملَكة إنسانية توجه السلوك اللغوي والاجتماعي بما يُثقف في البيئة من خبرات، ولكنها في مستوى أعلى من التفكير والتأمل والدرس وسيله استدلال واحتجاج.
كان علماء الفقه أسبق من اللغويين في تحرير أصول الفقه، وأما اللغويون فإنهم وإن كانت أصول علمهم هي الموجهة لتقعيدهم لم يُهدوا إلى تحريرها مبكرين، ولكنها تناثرت في ثنايا معالجاتهم حتى سعى ابن جنّي إلى تخصيص بعض أبواب خصائصه لها، ثم وُفق علَم يجمع بين الفقه والعلم إلى اقتباس علم أصول الفقه وجعله أصولا للنحو مستبدلا بالأمثلة الفقهية أمثلة نحوية، هذا ما فعله أبو البركات الأنباري في (لمع الأدلة) و(الإغراب في جدل الإعراب) و(الإنصاف في مسائل الخلاف) حتى إذا انتهى الأمر إلى السيوطي حرر كتابه (الاقتراح) في أصول النحو مستفيدًا من عمل ابن جني والأنباري، وكان هذا الكتاب قطبًا تدور في فلكه كل الأعمال التي عالجت الأصول، ومن نص نسبه صاحب الاقتراح للأنباري وليس في كتبه جاءت فكرة الكتابة عن (قياس العكس)، وهي قصة أحسن سبكها المؤلف في مقدمته. إذ لما رأى الدكتور محمد العمري أن (قياس العكس) غائب أو كالغائب عقد العزم على إنجاز دراسة وصفية لهذا القياس ثم إعادة بنيته النظرية انطلاقًا من تطبيقاته النحوية معززة بدراسة تطبيقية تكشف عن وجوده في الجدل النحوي عند الكوفيين والبصريين. ولما كان ما لا يتم الواجب إلا به واجبًا قدم لدراسة قياس العكس بمراجعة أصول الأنباري التي اعتمد عليها والروافد التي أسعدته في عمله، ثم وضع التصور الكلّيّ لأدلة النحو الذي يظهر فيه انقسام القياس قسمين: قياس طرد وقياس عكس، وهو ما يراد في كتب أصول النحو، وبهذا يعرف الباحث القياس بأنه "ربط معلوم بمعلوم لإثبات مثل حكمه له بجامع لهما [قياس طرد]، أو لإثبات عكس حكمه له بفارق بينهما [قياس عكس]".
ولتحقيق هذا جاء الكتاب في تمهيد وأربعة فصول، فمهد بتفصيل عن (الحجج العقلية في الجدل النحوي عند الأنباري) معرفًا بالجدل النحوي ومبينًا أهميته وإسهام أبي البركات فيه، وأدلة النحو كما يراها الأنباري، ولما كان الأنباري فقيهًا شافعيًّا كان من المهم بيان (أثر أصول الفقه الشافعي في رؤيته) والتوقف في ( كتب أصول الفقه وخطورة الانقياد الأعمى) إلى تلك الكتب عند وضع أصول النحو، ثم أفضى إلى القول بـأولوية (النظرة الكلية أولًا) وهي ضم للجزئيات في إطار كلي كاشف لمسائلها، ثم وقف عند (قياس الطرد في كتاب الإنصاف)، وأما أول فصول الكتاب فهو (قياس العكس دراسة أصولية) درس هذا القياس من جهتين الأولى (كما يبدو في كتب أصول الفقه) والآخرة (كما ينبغي أن يكون)، فإذا تقرر هذا نظر في (أقيسة العكس في الجدل النحوي عند الأنباري) ليجمعها ويصنفها ويوثقها، وهذه الأقيسة تنقسم قسمين: قياس فرق، أي وجود فرق بين محل النظر وغيره يقتضي تعاكس حكميهما، وقياس سبر، أي تخلف لازم الحكم أو انعدام دليل عليه، وينتهى من ذلك إلى أمر جامع وهو أنَّ قياس العكس أنْ يثبت المستدل أنَّ الحكم في الفرع يعاكس حكم الأصل إما لوجود فرق بينهما وإما لفساد إعطاء الفرع حكم الأصل. وأما الفصلان الثالث والرابع فقد خُصّصا للدرس التطبيقي في كتاب الإنصاف، فجعل الفصل الثالث (دراسة جدلية لأهم أقيسة العكس الكوفية) وجعل الفصل الرابع (دراسة جدلية لأهم أقيسة العكس البصرية).
ومن أهم ما وصل إليه هذا العمل الجليل تحرير أصول النحو الأربعة (السماع والقياس والإجماع والاستصحاب) التي أشاعها السيوطيّ بمنهجه التجميعيّ؛ إذ صحّ لنا أصلان هما: السماع والقياس، وأما الإجماع فإنه "لا يصلح أن يكون قسيمًا للسماع والقياس عند تعديد أدلة الأحكام؛ لأنه هو في نفسه مستند إليهما، إذ لا ينعقد الإجماع إلا عن دليل من سماع أو قياس"، وأما الاستصحاب فإنه "لا يصلح أن يكون قسيمًا للسماع والقياس عند ذكر أدلة الأحكام؛ لأن الاستصحاب في حقيقته حكم لا دليل، وهو حكم يستند عند التحقيق إلى قياس عكس ذهني هو نتيجته، فكان الاستصحاب بذلك صورة من صور قياس العكس".
والكتاب جدير بالقراءة والتأمل، وإنْ هُذّب صلح أن يكون كتابًا جامعيًّا يعرّف بأصول النحو تعريفًا ميسرًا، فشكرًا للمؤلف ما حرّر، وشكرًا لكرسيّ المانع ما نشر.