بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته

أن الإمامة خلافة لنبوة رسول الله صلى الله عليه وآله، في أداء التكاليف التي كان صلى الله عليه وآله يقوم بها. ويعني هذا أنه لا بد أن يتميز الإمام عليه السلام بكل ما كان يتميز به الرسول صلى الله عليه وآله من الصفات الكمالية كالعلم والعصمة وغيرها وأن يتنزه عن صفات النقص، مع المحافظة على "لا نبي بعدي".

أما دائرة العلم التي يلزم أن يتصف بها الإمام هل تختص بالأحكام فقط أم تشمل العلم بالموضوعات الخارجية، وسائر الأحداث الكونية بما في ذلك المغيبات الماضية والمستقبلة؟ يلتزم الشيعة الإمامية بإمكان هذا العلم بنحو مطلق وعدم تخصيصه أو تقييده بشي‏ء دون آخر من المعلومات، سوى ما خرج بالدليل القطعي. ويعترض على هذا الرأي أمران:

أولاً: إن علم الغيب خاص بالله تعالى، وحشدوا لذلك الآيات التي يظهر منها أنه ﴿لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾(النمل: 65) و﴿إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ﴾ (يونس: 20) وغيرها.

ثانياً: إذا كان الإمام عليه السلام يعلم الغيب، فلا بد أنه يعرف ما يضره ويسوءه، ويحكم العقل والشرع بوجوب الإجتناب والإبتعاد عما يسوء ويضر، لكننا نرى وقوعه في ما يضره ويؤذيه.

وقد جاء التصريح بهذه الحقيقة على لسان النبي صلى الله عليه وآله في القرآن الكريم: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(الأعراف: 188). ولو كان يعلم الإمام عليه السلام بالغيب، لِمَ يقدم على أعمال تؤدي إلى القتل وورود السوء عليه؟ فقد أقدم أمير المؤمنين عليه السلام على الذهاب إلى المسجد ليلة ضربة اللعين ابن ملجم واستشهد عليه السلام ويعتبر أصحاب هذا الرأي أن هذا من باب إلقاء النفس في التهلكة، والجدير ذكره أن هذا الرأي وجد قديماً جداً، فقد عرض على الأئمة عليهم السلام. ومحور الحديث سيكون حول الرأي الثاني وبالتحديد علم الإمام علي عليه السلام بشهادته. وقبل الدخول إلى صلب الجواب يُذكر أولاً، إن الاعتراض أو الرأي الثاني يستبطن الالتزام بأن الإمام عليه السلام يعلم الغيب، وإلا لا يمكن الاعتراض بإلقاء النفس في التهلكة، لأن غير العالم معذور في الاقدام على ذلك. والأمر الثاني وهو أمر أساسي وجوهري في فهم المسألة، وهو أن الإمامة إذا ثبتت لأحد، فلا بد من توفر أمر أساسي فيه حسب نظرية الشيعة الإمامية ألا وهو العصمة والتي هي الامتناع عن الذنوب والمعاصي بالاختيار، كذلك العلم بالأحكام الشرعية التفصيلية. فمن تثبت له الإمامة ويستجمع شرائطها، لا يتصور في حقه أن يقدم على محرم كإلقاء النفس في التهلكة، لأنها مخالفة شرعية منهي عنها، وعليه لا بد أن يكون ما يصدر عن الإمام مشروعاً، وبالتالي لا يمكن الاستناد إلى "حرمة إلقاء النفس في التهلكة" لنفي علم الغيب عنه، لأن الكلام حول علمه بالغيب إنما يكون بعد قبول إمامته بكل لوازمها وشروطها ومن أهم شروطها العصمة كما تقدم وهي تنفي الوقوع في الحرام المذكور "إلقاء النفس في التهلكة".


* ما هي التهلكة؟
إن وسم أي فعل من أفعال المكلف بالسوء أو التهلكة أو الضرر أو غيرها من الصفات، إنما ينبع من المفسدة الموجودة في ذلك الفعل، فإذا خلا الفعل حسب نظر فاعله عن المفسدة، أو ترتبت عليه مصلحة أكبر وأهم من تلك المفسدة، لا يسمَّى ذلك الفعل سوءً أو هلكة، بل أكثر من ذلك رب فعل نافع لشخص هو ضار لآخر، أو نافع في زمان دون آخر، قال تعالى:﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ﴾ (البقرة: 216) وقال سبحانه: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا اً﴾(النساء : 19). فالمقاوم الذي يقتحم الموت في المواقع ويحتضن الرصاص يخلد اسمه في التاريخ والذاكرة ولا يسمى فعله هلاكاً.

قال تعالى واصفاً الشهداء: ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (آل عمران: 169 – 170)فإن هذا ليس من إلقاء النفس في التهلكة بل هو من الإحسان ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ والشهادة هي إحدى الحسنيين، فينبغي إذاً عدم إطلاق صفة التهلكة على فعل إلا بعد فهمه وجميع التفاصيل والحيثيات المحيطة به.

نأتي الآن إلى نقطة علم الإمام "عليه السلام" بالشهادة فقد عرض هذا السؤال على الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام عندما قال له الحسن بن الجهم وهو من أصحابه: إن أمير المؤمنين "عليه السلام" قد عرف قاتله، والليلة التي يقتل فيها والموضع الذي يقتل فيه وقول الامير عليه السلام لما سمع صياح الأوز في الدار : "صوائح تتبعها نوائح" وقول ام كلثوم "لو صليت الليلة داخل الدار وأمرت غيرك يصلي بالناس" فأبى عليها. وكثر دخوله وخروجه عليه السلام تلك الليلة بلا سلاح وقد عرف عليه السلام أن ابن ملجم لعنه اللَّه قاتله بالسيف كان هذا مما لم يجز تعرضه. فقال الإمام الرضا عليه السلام: "ذلك كان، ولكنه خُيِّرَ في تلك الليلة، لتمضي مقادير الله عزّ وجلّ"(أصول الكافي، ج1، ص259). فالإمام الرضا عليه السلام كان واضحاً في أن الإمام عليه السلام أعطي الخيرة في أمر موته، فاختار القتل لتجري الأمور على مقاديرها المعينة في الغيب وليكون أدل على مطاوعته لإرادة الله وانقياده لتقديره.

كذلك إختار الإمام عليه السلام الموت والقتل بالكيفية التي جرى عليها التقدير، حتى يكشف عن منتهى طاعته لله عز وجل وانقياده لإرادته وحبه له وفنائه فيه وعشقه له ورغبته في لقائه. كما نقل عنهم قولهم عليهم السلام رضا لرضاك تسليماً لأمرك لا معبود سواك".والجدير ذكره هنا أن المحدث الكبير محمد بن يعقوب الكليني "رحمه الله" أقر باباً في كتابه الكافي والذي هو من أجل كتب الشيعة كما يقول شيخنا المفيد رضي الله عنه وقد عنون الباب "إنهم عليهم السلام يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم" ومضمون هذا الباب أن الموت الذي قهر به ما سواه وتفرد سبحانه بالعز والبقاء قد شمل الأئمة عليهم السلام أيضاً فإنهم عباد له سبحانه وإنما امتازوا عن باقي الخلائق بأن جعل الله اختيارهم للموت إليهم. والاختيار بحسب الروايات الموجودة في الكافي تدل على اختيار وقت الموت أيضاً، فيمكن اختيار الآجال المعلقة قبل أن تحتم. والأمر الآخر في الاختيار هو اختيار طريقة الموت من القتل بالسيف ضربة واحدة كما استشهد أمير المؤمنين عليه السلام أو تناول السم كما حصل مع أكثر الأئمة عليهم السلام أو بتقطيع الأوصال وفري الأوداج واحتمال النصال والسهام والحجارة والسيوف وتحمل العطش والظمأ كما حصل مع سيد الشهداء والأحرار أبي عبد الله الحسين عليه السلام. لو كان قتلُ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في بيته أو في أي مكان في الكوفة أو غيرها خارج المسجد، من كان يستطيع أن يفند أو يقف بوجه الإشاعات الإعلامية التي بثها بنو أمية بين أهل الشام "بأن علياً لا يصلي". لكنهم عندما سمعوا أنه قتل في محرابه وهو يصلي. قالوا: "أو كان علي يصلي؟!" كذلك باقي الأئمة عليهم السلام.

روي عن الإمام أبي جعفر عليه السلام بعدما سأله حمران: "جعلت فداك، أرأيت ما كان من أمر قيام علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام وخروجهم وقيامهم بدين الله عز ذكره، وما أصيبوا من قتل الطواغيت إياهم، والظفر بهم حتى قتلوا وغلبوا؟!" فقال أبو جعفر عليه السلام: "يا حمران إن الله تبارك وتعالى قد كان قدر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار ثم أجراه". ولتأييد ما ذكر ننقل ما ورد على لسان النبي صلى الله عليه وآله في خطبة شهر رمضان بعدما سأله الإمام علي عليه السلام عن أفضل الأعمال في هذا الشهر. فقال صلى الله عليه وآله الورع عن محارم الله، ثم بكى. فقال له الأمير عليه السلام وما يبكيك يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله: "أبكي لما يحل عليك من بعدي في شهر رمضان، كأني بك وأنت في محرابك إذ انبعث إليك أشقى الخلق من الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة صالح، فيضربك ضربة على مفرق رأسك ويشقه نصفين ويخضب لحيتك من دم رأسك. فقال الإمام عليه السلام يا سيدي أفي سلامة من ديني ؟ فقال صلى الله عليه وآله: "نعم يا علي من قتلك فقد قتلني ومن سبك فقد سبني لأنك مني وأنا منك...".


ومما تقدم نعرف أن الإمام علي عليه السلام الذي قال عندما ضربه اللعين ابن ملجم على رأسه "فزت ورب الكعبة" كان ينتظر الشهادة بفارغ الصبر مسلماً لمشيئة الله تعالى تسليماً مطلقاً.