من تاريخ الشطرة في عهدها الاول
تأسيس الشطرة القديمة
سكن السناجر – وهم اصل عشيرة العبودة الحالية – وخاصة ابناء المعز السنجري واولاد عمومته في منطقة (الشاهينية) في القرن السادس عشر الميلادي, وكانت عشيرة العبودة تنزل في مكانين ولهذا قيل لبعضهم عبودة (الجوازر) والبعض الآخر عبودة الشاهينية(), فقد ارسل الجد الأعلى للشيخ حسن السنجري مؤسس الشطرة - كما سنرى فيما بعد-
ابنه صالح لتعلم القراءة والكتابة في النجف، وقد فعل صالح (الجد الأول للشيخ حسن) الأمر نفسه عندما ارسل ابنه محمد علي والد الشيخ حسن للدراسة في النجف الأشرف.
فضّل الشيخ محمدعلي الاستقرار في النجف على العودة إلى الشاهينية التي ظل فيها ابناء عمومته مدة طويلة قبل ان يشب الشيخ حسن السنجري في النجف ويقرر هو وإخوته العودة إليها، فأستولى الشيخ على اراضي الشاهينية على اساس انها كانت لجده، ولكن ابناء عمومته فيها اشتكوا لأبيه محمدعلي في النجــف()، فكتب له ابوه بأن يترك هذه الأرض لبني عمومته، وان يختار بدلها ارضاً واسعة تتفق وطموحه لجمع عشائر العبودة، ذلك ان الشاهينية لا تسعه وعشائره، واخبره ايضاً بأنه سيكتب لأمير ربيعة بهذا الخصوص، إذ يذكر عبدالأمير آل عيسى في مخطوطته انه:
"كانت للشيخ محمد علي وعشيرته مكانة رفيعة عند امير ربيعة بفضل ما قدمه السنجري الأول[المعز] من مساعدة لربيعة في الحرب ضد عبادة".
امتثل الشيخ حسن السنجري لأمر ابيه وارتحل مع الكثير ممن كانوا في الشاهينية من السناجر والعبودة راكبين المشاحيف بحثاً عن مكانٍ يلائمهم، حتى دخلوا مجرى مائياً يدعى”كاهن”متفرع من نهر الغراف، ووجدوا عليه (شطرة دهلة)، اي ارض يابسة كانت قبل ذلك مغطاة بألمياه، اتخذها الشيخ حسن السنجري مستقراً جديداً له بعد ان ساعدته (الاستخارة) على هذا الأمر. ومما يلاحظ انه كان من بين ركاب المشاحيف شخص اسمه (سيد خليل) اوكل له الشيخ حسن مهمة توجيه المجرى المائي المذكور , فشق الرجل نهراً سُمَّي بأسمه وهو نهر الخليلية، الذي اقيمت عليه الشطرة القديمة, وكان ذلك في سنة 1202هـ/ 1787م، وقد أُرخ الانتقال بكلمة”غَبَرْ".
ويبدو إن السبب الأهم الذي ادى إلى تغيير موقع الانتقال من الشاهينية إلى الخليلية بألدرجة الأولى هو تناقص مياه الشاهينية وجفافها احياناً، اما التنافس بين عشيرتي عبودة وخفاجة فهو موجود بألأصل، لذا لا يمكن ان يصلح سبباً لتغيير موقع العشيرة وسكناها، إذ ظلتا متجاورتين ولا زالتا، ويمكن القول ان تأريخ هذا الانتقال يُعَدْ فاتحة عهد خير على عشيرة العبودة من جهة، والشطرة من جهة اخرى، فلولا عشيرة العبودة (السناجر) لما قامت الشطرة، التي هي اليوم إحدى مدن العراق الكبيرة، لتجمع عشائر العبودة المبعثرة في منطقة الغـراف وغيرها، ويشير المؤرخ المعروف عبدالرزاق الحسني إلى ان :
"جماعة من الغرافيين كانوا قد اسسوا قرية كبيرة في اراضي خفاجة اطلقوا عليها اسم الشاهينية , وهو اسم مدينة معروفة في التأريخ للأمير عمران بن شاهين , وقد اضمحلت هذه القرية في عام 1202هـ/ 1787م، فأنتقل اهلها إلى شعبة من نهر الخليلية الذي كان ينشطر من نهر الغراف، وكانت هذه الشعبة تسمى (الشطيرة) تصغير (شطرة)، فأسسوا قرية بأسم الشطرة".
فيما يذكر الشعـرباف:
“ان عشيرة العبودة تمركزت في قرية الشاهينية في اراضي خفاجة وهي اسم لمدينة تأريخية قديمة انشأها عمران بن شاهين, وموضعها حالياً في مقاطعة شطب آل منهل الأقرب إلى الناصرية منها إلى الشطرة". ويستطرد الشعرباف فيقول:
“كان التنافس والتشاحن بين عشيرتي العبودة وخفاجة هو العامل الذي دفع بألشيخ حسن السنجري رئيس عشيرة العبودة آنذاك إلى الهجرة من الشاهينية، وإسكان عشيرته على نهر الخليلية في الأراضي التي اقتطعها له الأمير مشكور ]امير ربيعة[ عند زيارته له، حيث كرم وفادته بتلك الأراضي التي كان النهر قد شطرها من إقطاعيته فسميت الشطرة".
ويؤكد المستشرق الألماني اوبنهايم Oppenheim)) تأريخ هذا التأسيس، ويقول انها تأسست في العام 1202هـ/1787م، على الجزء الرئيس لمنطقة الغراف السفلى من لدن سكان الشاهينية القرية المنحلة. اما بألنسبة إلى موقع الشطرة القديمة فيحدها من الشمال نهر الهاشمية , ومن الجنوب نهر إسْلََيّمْ, ومن الشرق نهر الغراف , ومن الغرب نهر ابو مهيفة، ويقول عبدالله الفياض انه عثر على خارطة في قصر (دولمبقجسي) في اسطنبول تشير إلى بلاد المنتفق , وإلى الشطرة وتسميها (حي شطره سي).
اعمال الشيخ حسن السنجري الإدارية:
كان نهر الغراف هو الذي يغذي نهر الخليلية، الذي قامت على ضفافه قرية صغيرة عرفت بأسم الشطرة() كانت مبنية من القصب والطوف، والمعروف عن الشيخ حسن السنجري (مؤسس الشطرة القديمة) انه كان من رجال العلم المشاهير، فهو ممن درسوا في النجف ورافق علماءها، ومن الطبيعي ان يفكر اولاً بتأسيس مدرسة دينية لتكون من اولى مهماته الإدارية في هذه القرية. كما عمّر الشيخ حسن الأراضي وأقام الأسواق، فمارس اهلها التجارة، إذ كان التبادل التجاري قائماً بصورة واسعة بين الشطرة وما جاورها من مناطق، إذ تبودلت السلع التجارية بين الشطرة وسوق الشيوخ، عندما لم تكن مدينة الناصرية موجودة (تأسست عام 1869)، مما ساعد على ازدهار الشطرة وتحسين الحالة المعاشية لسكانها.
واستمر الشيخ حسن السنجري برئاسة قرية الشطرة مدة من الزمن، ثم جاء إلى تلك المنطقة بعد فترة قصيرة امير ربيعة(مشكور) بجولة لتفقد مناطق إمارته، واثناء تجواله رأى مبان جديدة وسكناً واسعاً تجمع العبودة بعد تفرقها، ولما سأل عن ذلك قيل له بأن هذه المنطقة انشأها الشيخ حسن السنجري, وعمَّرها وسمَّاها الشطرة، فنزل ضيفاً عنده، حينذاك اعطاه الأمير حجة بجميع الأراضي التي عمَّرها والتي يروم تعميرها، تكريماً له وتقديراً لما قام به الشيخ حسن، وبذلك توطدت مكانته واستمر برئاسة تلك القرية. وبمرور الزمن قدمت اعداد كبيرة من ابناء العشائر الأخرى , فضلاً عن عدد من افراد عشائر العبودة المتفرقة , فألتأم شملها في هذه المنطقة، منهم آل حميد والحاج عبدالله نجم وآل سيد موسى وآل الحاج مظلوم ومجيد السهل وآل شبيب والمجانين وحسن آل زيارة وغيرهم، وبذلك كان للشيخ حسن السنجري دور ايجابي في توحيد عشيرة العبودة بصورة خاصة , وبقية العشائر الساكنة في المنطقة بصورة عامة. وقد مرّ الرحالة البريطاني هود Heude)) وهو في طريقه إلى بغداد بألشطرة عام 1817 فقال في وصفها:
"في اليوم السابع والعشرين من كانون الثاني 1817 وصلنا مدينة كبيرة تدعى الشطرة، كنت سأقدر الشطرة بأنها على بعد ستين ميلاً في الأقل عن الكوت، وكانت اول مدينة اجتزناها منذ رحيلنا عن ذلك المكان، وهي مؤلفة من بيوت طينية منتظمة وفيها سوق شرقية، وكان الشيخ حسود ] يقصد به الشيخ حسن السنجري[ رجلاً يبلغ من العمر سبعين عاماً , ولديه مجلس او ديوان يديره مع ابنه الأكبر".
وامتدح هود الطعام الذي قدم له فذكر:
"في اثناء وجبة الطعام، كانت الوجبة الوحيدة المتواضعة والمريحة من بين الوجبات التي استمتعت بها لأسبوع".
واستطرد في حديثه عن الشطرة ليذكر الأوضاع الأمنية الجيدة فيها، على الرغم من حالات السطو واللصوصية في المناطق الأخرى والتي ذكر بعضها، إذ يذكر:
"اعددت مقعداً نظامياً لغرض نقلي إلى بغداد... مخبرا إياه ] يقصد الشيخ حسن السنجري [ بأني شعرت بألأمان التام حيث كنت".
وهنا يظهر مدى الاهتمام الذي ابداه الشيخ حسن من النواحي الإدارية والتنظيمية في الشطرة، فوفر حراسات ليلية في المدينة يقوم بها افراد عشيرته في ظل نظام اجتماعي كانت فيه اللصوصية والسرقة شيئاً اعتيادياً. ويذكر يعقوب سركيس في مباحثه:
"ويغلب على ظني ان اراضي اسْلَيّمْ والسيدية، كانت قد منحت لجدود بيت الشيخ والسادة آلبوهلالة من قبل امراء ربيعة، يوم كان هؤلاء الأمراء يقيمون في هذه الأنحاء ولا يزال اصحاب اراضي اسْلَيّمْ معروفين ببيت الشيخ، ولاشك ان هذا الشيخ هو حسن السنجري، وهكذا يقول الثقاة".
ويصف لنا خورشيد افندي الشطرة القديمة , والتي مرَّ بها في سنة 1851 قائلا:
"يروي نهر الشطرة الكبير سهول قرية الشطرة التي يوجد فيها300 بيت، وكذلك قرية العبودة وفيها400 بيت ]كذا[والواقعة على بداية النهر بعد تفرعه بمسافة قصيرة، وتصب بقايا مياه جدول الشطرة في هور الحسينية الذي يكوّن مسطحاً مائياً مساحته خمسة اميال. تقع قرية الشطرة في موقع ممتاز، ويمكن تسميتها بألمدينة الصغيرة، مررنا على بعد ربع ميل منها وتمكنا من مشاهدة معالمها الجيدة، ويزاول سكان المدينة حرفة التجارة والبقالة, ويحترف بعضهم الزراعة".
ويذكر خورشيد افندي في موضع آخر قائلا:
"بألقرب من مكان تفرع جدول الشطرة من نهر المسرهد (نهر الغراف)، وفي الضفة اليمنى تتفرع قناة اخرى من نهر المسرهد تسمى ترعة (ابو شبيبة)، ويسكن الأراضي المحصورة بين هذه الترعة ونهر المسرهد فلاحون من عشيرتي العبودة وخفاجة. وفي الأراضي الواقعة مابين بدعة محمد ومقام الحمزة يوجد 300 بيت من عشيرة الطوينات، وبعد ثلاثة اميال يصب جدول (ابو شبيبة) في هور مالياب او الجوابر، والذي يتصل بدوره بنهر الفرات، ويسكن ثلثا عشيرة خفاجة البالغ عددهم 700 بيت , وثلث عشيرة الشاوية والذين يربّون الجاموس ويسمون بألمعدان, على ضفاف ترعة (ابو شبيبة)، وعلى بعد 3.5 ميل من نقطة تفرع جدول (ابو شبيبة) من نهر المسرهد تتفرع من هذا النهر ومن الضفة اليمنى من ترعة بدعة محمد الأخرى او ما تسمى بنهر السبيل. ويسكن في الأراضي الواقعة مابين جدول (ابو شبيبة) وجدول السهل، وعلى الضفة اليمنى لنهر المسرهد فلاحو عشيرة خفاجة , وبين نهر السبيل والضفة اليسرى ترعة بدعة محمد يسكن فلاحون من عشيرة آل إبراهيم , وكان نهر المسرهد ينتهي قديماً في المنطقة التي ينتهي فيها جدول آل إبراهيم)).
توفي الشيخ حسن السنجري عن عمر ناهز السبعين، فأعقبه ولده الشيخ طاهر، ويذكر يعقوب سركيس في هذا الصدد:
"إن طاهر كان حدثاً يوم وفاة والده، فقام مقامه الشيخ ابو الحسن شقيق الشيخ حسن السنجري، ولكن ابا الحسن هذا لم يعش طويلا فخلفه حفيده الشيخ موسى بن الشيخ جعفر".
وفي عهد الشيخ صالح بن عيسى آل السعدون، شق نهر البدعة في سنة (1273هـ/ 1856م) الذي يسير في اراضي منخفضة، ادى إلى نضوب نهر الغراف، فيما يلي صدر نهر البدعة، فمات نهر الخليلية، وقد حدا هذا الأمر بسكان الشطرة القديمة إلى النزوح إلى الشطرة الحديثة التي اسست بعد ذلك على بعد اقل من ثلاثة كيلو مترات من الشطرة القديمة- من جهتها الشمالية الشرقية- على نهر الغراف، فيما يلي صدر نهر الخليلية والذي يسمى الآن بنهر الشطرة.
يؤكد يعقوب سركيس هذه الوقائع , فيقول:
"اني لقيت والدي يقول في نسخ مكاتيبه إلى اصحابه في سنة1273هـ-56/1857م وهو في اراضي البدعة (من بدعة آل محمد)، والمعروف على ما كنت سميته ان امير ربيعة اهدى اراضي هذا الجدول او بعضها إلى احد آل السعدون , وكنت ظننته انه الشيخ عيسى آل محمد الثامر آل السعدون، وبعد الحفر في هذا النهر توسع انخفاض الأراضي التي يجري فيها واليها،فغدت تقل المياه شيئاً فشيئاً عند الشطرة، ففي شط آل ازيرج وشط آل إبراهيم، اصبح زراعها مضطرين إلى انشاء سكور() موقفة فيها ليرتفع الماء لأسقاء اراضيهم، فبدأ الترسب في هذين الشطين،وكلما ازداد الترسب زيد عدد السكور...وغدا الماء لا يرقاها فأنقطع الماء عن الجريان بتاتاً في الشطين المذكورين".
وعندما عُيّن عمر باشا السردار والياً على بغداد في العام1274هـ/1857م بعد وفاة محمد رشيد باشا ﺍﻟﮔوزﻟﮔﻲ، وجه عنايته نحو المنتفق،وشيخها كان يومئذ منصور بن راشد، إذ حصل هذا الوالي من اسطنبول لمنصورهذا رتبة قائم مقام المنتفق، مع منحه ايضاً رتبة مدير الاصطبل العام، ولقب(بك) وذلك في العام 1276هـ/1859م.
وفي عهد ولاية محمد نامق باشا والتي تولاها للمرة الثانية في عام 1278هـ/1861م، صادق منصور باشا على إلغاء المشيخة في المنتفق واسندت إليه وظيفة قائم مقام المنتفق في يوم الخميس30جمادى الأولى سنة 1280هـ/11 تشرين الثاني1863م، إلا ان اخاه الشيخ ناصر عارضه في إلغاء المشيخة وامر ببقاء المشيخة في إمارة المنتفق، خاصة عندما دخل في نزاع مع فهد باشا شيخ المنتفق يومئذ , والذي تنتهي مدة التزامه عام 1866، بحيث زيد بدل الالتزام بمقدار الثلثين تقريباً، إذ رست المزايدة على ناصر السعدون بمبلغ قدره 3600 كيس()سنوياً, بزيادة قدرها2200 كيس سنوياً على العقد المبرم مع فهد بن علي عام 1863، مما حمّل الفلاحين اعباء ثقيلة، لأن الملتزمين كانوا يرفعون من قيمة المطلوبات من الفلاحين حتى يستطيعوا الوفاء بألتزاماتهم، وزاد من هذهِ الأعباء ان الباشا تمسك بأن يرفع بدل الالتزام كله نقداً. وكان من قبل يدفع نصفه عيناً والنصف الآخر نقداً.
وبعد تغلب ناصر بن راشد على فهد بن علي, وتسلمه إمارة المنتفق سنة 1283هـ/1866م، تفاوض مع الحكومة العثمانية التي ضَمّنتهُ خراج المنتفق بمبلغ 4.338.875 قرشاً- اي ما يعادل48000 ليرة ذهب- يدفع سنوياً لخزينة الحكومة في بغداد، وايضاً ضمان المشيخة, ومن بينها المقاطعات الزراعية في الشطرة.
وبعد انتداب تقي الدين باشا لمنصب والي العراق بدرجة وزير، غدا إسقاط الإمارة في منطقة المنتفق هدفه الأول، ففي عهده كان آل السعدون يرفعون من قيمة المفروض على كل فرد، حتى اضطر عدد كبير من الزراع إلى هجر ديرته إلى مناطق شتى. وفي تلك الظروف اصبح من الصعب على شيخ المنتفق ان يعتز بأستقلاله الذاتي، وان يظل مسيطراً بقوة على عدد من العشائر التي كانت خاضعة له(. وفي تلك المرحلة لمست الحكومة العثمانية عدم قدرتها على تحقيق ما كانت ترنوا إليه في العراق , بما في ذلك القضاء على المنتفق , فأنتدبت مدحة باشا() لولاية العراق(1869-1872)، فسعى إلى تطبيق قانون الأراضي الصادر عام 1858 وقانون الولايات الصادر عام 1864.