تتميّزُ بعضُ المُشارَكاتِ في الندوات والمؤتمراتِ الوطنيّةِ والدّوليّةِ، بصفةٍ غَريبةٍ تَعتري لُغةَ الإلقاءِ ومُستَوى الأداء، تجعلُ السامعَ في حيرةٍ من أمرِه؛ إنّها صفةُ إسقاطِ الإعرابِ والاستغناءِ عن الحَرَكاتِ وذلكَ بتسكينِ أواخرِ الكلِمِ، وهذا وضعٌ مُربِكٌ يَضطرُّ معه السامعُ إلى تقديرِ المُسْقَطِ واستكمالِ المَنقوصِ واستحضارِ المُسْتَغْنَى عنه.
ويترتّبُ على إسقاطِ الإعرابِ آفةٌ جَسيمةٌ؛ هي دُخولُ آخرِ حرفٍ من الكلمةِ في أولِ حرفٍ من الكلمةِ التي تَليها، ويَنتهي هذا التداخُلُ بوقوعِ اللّبسِ وإرهاقِ ذهنِ السامعِ في تَقديرِ الصورةِ الإعرابيّةِ السّليمَة. والأغربُ من ذلكَ أنّ كثيرا من الورَقاتِ البحثيّةِ المُستَغْنى في إلقائها عن الإعرابِ تُقرأ قراءةً ولا تُرتجَلُ، ويُفترضُ أنّ القراءةَ المُباشرةَ تُعزّزُ القُدرةَ على المُحافظةِ على الإعرابِ، ولكنَّ الاستعانةَ بالورَقَةِ لَم يَقْوَ على التّغلُّبِ على الآفَةِ.
بل الأغربُ من ذلك كلِّه أنّك لا تستطيعُ أن تُدليَ بالمَلحوظةِ، وكأنّ تركَ الإعرابِ مُترخَّصٌ فيه اتِّفاقاً ومسكوتٌ عَنه عُرفاً، وإذا أنكرْتَ الآفَةَ قيلَ لك إنّنا نتحدّثُ في عصرِ السرعةِ بلُغةٍ تُناسبُ الزّمَنَ السريعَ، وإنّ هذا من خصائصِ "اللغة العربية المُعاصرَة"، والاعتراضُ الذي يَرِدُ على هذه الدّعوى أنّ إسقاطَ الإعرابِ نقصٌ وحالةٌ سالبةٌ، ولا يُعقَلُ أن تَقوى حالةُ السلبِ والإسقاطِ على بناءِ لغةٍ من أصلِ لغةٍ، أو إن شئتَ فقُلْ: ليسَ هَدمُ إعرابِ الفصيحِ شرطاً في بناءِ المعاصرِ غيرِ المُعرَبِ.
ويُضافُ إلى حالةِ الاستغناءِ عن الإعرابِ حالةٌ أخرى مُزريةٌ باللغةِ العربيّةِ، إنّها سوءُ إخراجِ الأصواتِ، ولهذه الصّفةِ تفصيلٌ : مفادُه أنّ المتكلّمَ يخلطُ بعضَ الأصواتِ المتشابهةِ كتابةً وإملاءً ببعضٍ؛ كالضاد والظاء فيجعلُ الظاءَ ضادا مُطلَقاً، والدّال والذّالِ، ويُرقّقُ المُفخّمَ يجعلُ الصادَ سيناً والضادَ دالاً... وقد يَنتهي به أمرُ الخلطِ إلى سوءِ تبيُّن الدّلالَةِ.
من آفاتِ العُدولِ بالأصواتِ عن مخارجها ومظانِّها حالةٌ شديدةٌ الغَرابَةِ؛ إنّها تداخُلُ الأصواتِ في الكلمة الواحدةِ وإدغامُ بعضها في بعضٍ مما لا يَقبلُ الإدغامَ في الأصلِ، فيتعذّرُ على السامعِ أن يتبيّنَ الكلمةَ العربيّةَ، وإذا أنكرْتَ هذه الآفَةَ الصَّوتيّةَ قيلَ لك كما قيلَ في تعليلِ إسقاطِ الإعراب: سرعةُ الكلامِ تَقضي بدُخولِ الأصواتِ بعضها في بعضٍ، وهذه الآفةُ تُعدُّ عندَهُم صفةً من صفاتِ "العربيّةِ المُعاصرةِ" اقتضلها التّداوُلُ ومُقتَضَياتُه.
قد يُقالُ إنّ المتلقّيَ الذي دأبَ على سماعِ هذه "اللّغةِ" يستطيعُ أن يستخدمَ قُدرةً أو مَلَكَةً لغويّةً تُمكّنُه من فَهمِ المرادِ وتَخطّي العائقِ. ولكن ما القولُ في متلقٍّ عربيٍّ آخرَ اعتادَت أذُنُه ألّا تسمعَ إلا المُعربَ من الكلام والمُبيَّنَ من الأصواتِ، فإذا خوطبَ بهذ اللغةِ ذاتِ "الوِزْرَيْنِ" عَمِيَ عليه المَعْنى وضاعَ التّواصلُ وانقَطَعَ حَبلُ التّفاعُلِ.
وهذا من الآفاتِ المَسكوتِ عَنها تَجمُّلاً و"حفظاً للودّ" على حساب العلمِ ولُغةِ الإلقاءِ العلميّ