كريستوفر نولان، المُخرج المُبدِع الذي أخرجَ لعالم السينما عدداً من أفضلِ أفلام القرن الحادي والعشرين ومنها ” Memento”، ” Inception” و ” The Dark Knight Rises” وإلى جانب الإخراج، فقد ساهم بشكلٍ رئيسيّ في كتابة نصوص أعماله.
أثبت نولان تميّزَهُ منذ إطلاقه لفيلمه الأوّل " Following" الذي كان عملاً بالأبيض والأسود، بميزانيّةٍ صغيرةٍ ويتحدّثُ عن كاتبٍ مهووسٍ بمُلاحقة الغرباء إلى أن ينساقَ في نهاية المطاف إلى عالم الجريمة
تميّز الفيلمُ بأسلوبه غير التّقليديّ حيثُ اعتمدَ نولان بشكلٍ رئيسيّ على إلقاء وقراءة النّصوص وإضافتها لاحقاً إلى مشاهد التّمثيل بدلاً من الحوارات المباشرة بين الممثّلين
سلّط هذا الأسلوبُ الأضواءَ على نولان وأكسبهُ سمعةً حسنةً، وأطلق بعدها فيلمه " Memento" الذي يُعَدُّ اليوم واحداً من أبرز روائع المخرج العبقريّ. كان الفيلم من بطولة الممثّل غاي بيرس Guy Pearce الذي لعبَ دورَ مصابٍ بفقدانِ الذّاكرة ويحاول الانتقامَ لمقتل زوجته معتمداً في تذكّره للأشياء على التقاط الصور الفوريّة وأخذ الكثير من الملاحظات
تميّز الفيلم استخدام نولان لمشاهدٍ ملوّنةٍ تارةً وأُخرى بالأبيض والأسود، مُقتبساّ إيّاه عن قصّةٍ كتبها شقيقه جوناثان نولان Jonathan Nolan
ترشّحَ الفيلم للفوز بجائزتي أوسكار عن فئة أفضل نص أصليّ وعن فئة أفضل مونتاج
واصل نولان تقديمه لأفلامٍ من نمط الإثارة النّفسية وكان أبرزها العمل المميّز من عام 2002 " Insomnia"، من بطولة آل باتشينو Al Pacino الذي لعب دورَ محقّقٍ من دائرة شُرطة لوس أنجلوس يُرسَلُ مع زميله إلى ألاسكا للتّحقيق في جريمةِ قتلٍ شنيعةٍ بحقّ فتاةٍ مراهقةٍ، تناولَ الفيلمُ فكرةَ الصّراعِ بين الخيرِ والشرّ بأسلوبٍ مميّزٍ لم تعهده السينما من قبلٍ
حلّقَ اسمُ نولان إلى العالميّة بعد إخراجه عام 2005 لفيلم Batman Begins المُقتبس عن كتابِ قصصٍ مصوّرةٍ تتحدّثُ عن البطل الخارق "Batman"، وكان من بطولة النّجم كريستيان بيل Christian Bale بدور Batman. حقّق الفيلمُ إيراداتٍ مُذهلة قُدّرت بحوالي 372 مليون دولار حول العالم
أطلق نولان بعدها عام 2006 فيلم " The Prestige"، الفيلم المميّز الذي أُشيدَ بحبكته المميّزة والذكيّة والتي تتحدّث عن المُنافسةِ بين ساحرين متمرّسين لعب دورهما كلّاً من هيو جاكمان Hugh Jackman وكريستيان بيلChristian Bale إلى جانب الفنّانة سكارليت جوهانسون Scarlett Johansson
في تمّوز عام 2008 أخرجَ نولان الجزء الثّاني من سلسلة أفلام Batman وحمِلَ اسم " The Dark Knight" والذي تمكّنَ من تحقيق رقماً قياسيّاً للأرباح خلالَ عطلةِ نهايةِ الأسبوع التي افتُتح فيها بالولايات المُتّحدة الأمريكيّة وذلك بمبلغ 158 مليون دولار، ليُصبحَ بذلك واحداً من أكثرِ خمسة أفلامٍ تحقيقاً للأرباح في أمريكا
حظيَ الفيلم بإشادةٍ مُذهلةٍ من قبل النّقاد، حيثُ أنّه كان مميّزاً من كافّة النّواحي بدايةً بالإنتاج وانتهاءً بالأداءِ الرّائع لطاقم لممثّلين، لذلك فإنّه ليس من المُستغرب أنّ الفيلم قد ترشّحَ لنيلِ عددٍ كبيرٍ من الجوائز من بينها عدة جوائز أوسكار Oscar إلى جانب عدّة ترشيحات لجائزة غولدن غلوب Golden Globe
لابُدّ من أنّ النّجاح الاستثنائيّ للفيلم قد جلبَ الفرحةَ لطاقمهِ، إلّا أنّ تلك الفرحة لم تكن مُكتملة بعد أن غيّبَ الموتُ الممثّل هيث ليدجر Heath Ledger (والذي أدّى دور الجوكر في الفيلم) إثرَ تناولِه لجرعةٍ زائدةٍ من عدّةِ أدويّةٍ وذلك في وقت سابقٍ من إطلاق الفيلم
وممّا لا شكّ فيه بأنّ أداء ليدجر المُذهل كان العنصرَ الأساسيَّ في نجاح الفيلم، الأداء الذي مكّن ليدجر من الفوز بالعديد من الجوائز بعد وفاته من بينها جائزة أوسكار وجائزة غولدن غلوب Golden Globe والتي استلمها نولان نيابةً عنهُ وقال في خطاب استلامه للجائزة: " وفاة هيث تركت هوّةً في مُستقبلِ السينما، لكنّ بعد ردّة الفعل المميّزة التي رأيناها حول العالم تُجاه أعماله، تمكّنت من أن أغضّ النّظر قليلاً عن الفراغ الذي سيتركه مُستقبلاً، وأعرتُ انتباهي للمكانةِ المُذهلة التي قد صنعها لنفسه في تاريخ السينما،" أردفَ قائلاً: "لقد فقدناه للأبد إلّا أنّنا لن ننساه أبداً"
في صيف 2010 عاد نولان ليتصدّرَ شبابيك التّذاكر مع تحفته الفنيّة " Inception" والذي كان من بطولة النّجم ليوناردو ديكابريو Leonardo DiCaprio بدورِ جاسوسٍ يقومُ مع مجموعته الخاصّة باستخلاصِ وزرعِ المعلومات في العقلِ الباطن لأهدافه وذلك من خلال الدّخولِ إلى عالم أحلامهم بينما هُم نائمون
حازَ الفيلمُ على إعجاب النّقاد الشديد وفاز بأربعة جوائز أوسكار تقديراً لكميّة الجهد المبذولة في المؤثّرات البصريّة والصوتيّة والتي كانت أقربُ للسّحر
بعد فيلم " Inception" أخرج نولان عام 2012 الجزء الثّالث من سلسلة Batman والذي جاء بعنوان " The Dark Knight Rises" وكانَ هذه المرّة من بطولة النّجمة آن هاثاواي Anne Hathaway التي لعبَت دور Catwoman والنّجمة ماريون كوتيار Marion Cotillard (التي شاركت سابقاً بفيلم نولان Inception) بدور Miranda Tate
إلى جانب الإخراج، كان نولان كاتب النّص الرئيسي في فيلميه " Following" و" Inception"
حقيقةً، باستثناءِ فيلمه Insomnia، شارك نولان بشكلٍ رئيسيّ في كتابة نصوص كلّ أفلامه بمساندةِ شقيقه جوناثان وآخرين
عاد نولان في خريف 2014 إلى الشّاشة الكبيرة في مع فيلم الخيال العمليّ الملحميّ " Interstellar"، والذي يروي قصّةَ مجموعةٍ من روّاد الفضاء الذين يسعونَ لإيجاد كوكبٍ يصلحُ للحياة بعد أن تعرّضت الأرض لكارثةٍ ستُنهي وجودَ الجنس البشريّ عليها في المُستقبلِ القريب
قاربَت مدّة الفيلم الثّلاث ساعات شاهدنا فيها تأثيراتٍ بصريّة تحبس الأنفاس إلى جانب موسيقى تصويريّةٍ مُذهلةٍ أوصلت تجربةَ المشاهدة إلى الكمال
لعبَ دورُ البطولة عددٌ من النّجوم البارزين ومنهم ماثيو ماكونهي Matthew McConaughey، آن هاثاواي Anne Hathaway، جيسيكا شاستين Jessica Chastain ومايكل كين Michael Caine، إلى جانب العديد من النّجوم الآخرين
عُرِفَت أفلام نولان بغناها الثّقافي وأبعادها النفسيّة إلى جانب حبكاتها غير التّقليديّة، على سبيل المثال، تميّز فيلماه " Following" و" Memento" بأحداثٍ غير مُتسلسلة ومن دونِ حواراتٍ مُباشرةٍ، حيثُ أنّ أغلب الضّجة التي تلقاها فيلمهMemento كانت بسبب الأسلوب المميّز بعودة الأحداث بالزمن وبترتيبٍ لافتٍ للانتباه. كما أنّ فيلمهInception تضمّن أحداثاً تحدثُ ضمنَ أحداثٍ أخرى حيثُ قامت الشّخصيات باكتشاف الأبعاد المُتعدّدة لعقل الشّخص الفاقد للوعي
وغالباً ما تدورُ أعمالُ نولان حول أفكارٍ خارجةٍ عن المألوفِ، تدّبُ الإثارةَ والحماس في عقل المُشاهد، كما أنّ الشخصيّات التي يُقدمها لنا نولان في أفلامه فغالباً ما كانت الرئيسيّة منها شّخصيّاتٍ ذكوريةً تتعرّض للعديد من العقبات والتّحدّيات. بينما الشخصيّة النّسائية في أفلامه فغالباً ما كانت بدور الفتاة المُساعدة والدّاعمة للبطل أو بدور الحبيبة، كما أنّ قصصهُ غالباً ما تنتهي بموت بعضٍ من تلك الشّخصيات
ترافقَ حسُّ نولان الإخراجي مع حسّه الفنيّ فرأينا وبكلّ وضوح تأثيرَ الفنّ على العديد من أعماله وذلك من خلالِ مشاهدٍ تخيليّةٍ ترتبط في ذهن المُشاهد مباشرةً بنوعٍ أو بعملٍ فنيّ، على سبيل المثال في فلميه "Inception" و"Interstellar" نرى في التّصوير وطريقة إنتاج العمل بشكلٍ عامّ، تجليّاً واضحاً للتوجّه السُّريالي
ختاماً، قدّم المُبدعُ نولان عديداً من أفضل أعمال القرن الحادي والعشرين على الإطلاق، تاركاً بصمته وأسلوبه المميّز الذي غيّر وبشكلٍ واضحٍ معالم صناعةِ الأفلامِ وما يُمكن تقديمه في ذلك المجال.