إن الشاعر الذي استحدث بتغيير صيغة المفرد صيغةَ مثناه ؛ فاستغنى بها عن إعادته ، وصيغةَ جمعه ؛ فاستغنى بها عن تكراره - استحدث بتغيير صيغة المفرد مرة ثالثة صيغةَ مُصَغَّرِه ؛ فاستغنى بها عن نَعْته !
ربما كان يقول :
1 هذا بابٌ صَغير .
2 هذا مَسْجد صَغير .
3 هذا ميزان صَغير .
ناعِتًا الأشياء الصغيرة بنُعوت صِغَرها ، فصار يقول :
1 هذا بُوَيْب .
2 هذا مُسَيْجِد .
3 هذا مُوَيزين .
ملتزما في الثلاثة ضمَّ الأول وفتحَ الثاني - فإن لم يَتَحَمَّل الفتح رده إلى أصله أو قلبه واوا ليتحمَّلها - وإضافةَ ياء ساكنة ( أداة التصغير ) ثالثا - فإن لم يبق فيه ما يلي الياء ، رَدَّ آخره المحذوف ، أو أضاف إليه ما يحميها من خلفها - : " بُوَيْب = فُعَيْل ، ... = فُعَيْـ ، ... = فُعَيْـ " ، وكَسَرَ ما بعد الياء وقَبْلَ آخِرِ الكلمة : " مُسَيْجِد = فُعَيْعِل ، ... = فُعَيْعِـ " ، وجَعَلَ حرف اللّين وحده - إن كان بعد ما بعد ياء التصغير وقبل آخر الكلمة - ياءً - إن لم يكن ياءً - : " مُوَيْزين = فُعَيْعيل " !
وهو الذي أكثر في الدلالة على بقايا الأشياء ، من استعمال صيغة " فُعالة = كُناسة ، نُخالة ، بُرادة " !
أَتُرى جرى الشاعر في ضم أول المصغر ثم فتح ثانيه ثم إضافة الياء الساكنة ، مجراه في صيغة بقايا الأشياء - وإن أَبْدَلَ مِنَ الألف الياءَ الساكنةَ مثلَها - أَمْ جَرى في صيغة بقايا الأشياء مَجْراه في التصغير ؟
سواء لديَّ هذا وذاك ؛ فلقد بَيَّنَ كلٌّ منهما الآخرَ ، وتبين به ؛ فانكشف طرف من منهج الشاعر في الصياغة ، و" الشِّعْرُ ضَرْبٌ مِنَ الصِّياغَةِ " !
ثم إنه استطاع أن يوسع هذا التصغير ليتحمل دلالات أخرى من صنفه ، كالترحم : " كَمْ - يا مُسَيْكين - تَبْكي " ، والتحبّب : " اعْلَمْ - يا بُنَيَّ - أَنَّ ... ! " ، والتقليل : " لُقَيْماتٌ يُقِمْنَ صُلْبَه " ، والتقريب : " قُبَيْلَ الصُّبْحِ بَلَّتْهَا السَّماء " ، والتحقير : " أُسَيِّدٌ يَتَلَقَّطُ قَرَدَ الْقُمامِ ، يَأْكُلُ الدَّمَ وَهُوَ لَه حَلالٌ " !
بل قد حمله أحيانا من دلالات ضده - فبالضد يظهر الضد - كالتعظيم : " أَنا جُذَيْلُها الْمُحَكَّكُ ، وَعُذَيْقُها الْمُرَجَّبُ " ، والتَّبْشيع :
" وَكُلُّ أُناسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ مِنْها الْأَنامِل " !
بل قد استطاع أن يزيد ذلك التصغيرَ تصغيرًا ؛ فعَمَد إلى كل مُصَغَّرٍ بقيت فيه مع تصغيره زيادة على أصوله ، فَرَخَّمَه بحذفها ثم تصغيره على حسب ما يبقى فيه بعدئذ ، على النحو التالي :
1 هذا سُجَيْد .
2 هذا وُزَيْن .
فبالغ في تأكيد دلالاته ! ولا يخفى أنه لما لم تبق بـ" بُوَيْب " المصغَّر مِنْ زيادة ، لم يَتَحَمَّل الترخيم !
ولكنه تحرى فيما صَغَّرَ أن يكون معربا - فلم يصغر المبني كالضمائر إلا ما شَذَّ - وألا يكون على وزن صيغة من صيغ تصغير المجرد - فكيف يصغر اسم الكُمَيْت ! - وأن يكون قابلا للتصغير - فكيف يصغر اسم الجلالة - إلا أن يَبْدُوَ لِغَيْرِه فيما صَغَّرَ - و" لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُولّيها " - كالذي بدا لسيدنا سعيد بن المسيب - رضي الله عنه ! - في قول أبي الخطاب عمر بن أبي ربيعة ، من رائيته الفاخرة :
" وَغابَ قُمَيْرٌ كُنْتُ أَرْجو غُيوبَه وَرَوَّحَ رُعْيانٌ وَنَوَّمَ سُمَّر "
قال : " ما لَه قاتَلَهُ اللّهُ ! لَقَدْ صَغَّرَ ما عَظَّمَ اللّهُ ! يَقولُ اللّهُ - عَزَّ ، وَجَلَّ ! - : وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتّى عادَ كَالْعُرْجونِ الْقَديمِ"!