الشناشيل.. إرث معماري عريق يغادر تاريخ بغداد
تراث عاصمة الرشيد المهدد بالزوال
الشناشيل واحدة من معالم بغداد القديمة، لكنها تختفي شيئًا فشيئًا بمرور الزمن، ولذلك أسباب عدة بينها إهمال المباني التراثية القديمة، أو امتداد يد الفساد إليها
لـ”شناشيل” بغداد نكهة من نوع خاص، تعيد المتجول في الأحياء القديمة التي ما زالت تحتفظ بهذه الأبنية إلى القصص والحكايا التي تناقلتها الأجيال، تلك الأحاديث التي تتعلق بالترابط الأسري، والعلاقات الإنسانية التي تربط أبناء الحي البغدادي الواحد.
وتعد الشناشيل من أهم المعالم الفلكلورية البغدادية، وهي تمثل الشاهد على جميع التحولات الاجتماعية والحضارية التي مر بها العراق، وما زال بعضها يقاوم الزمن ويطاول ببهائه التطور العمراني.
والشناشيل هي شُرَف تبنى من الخشب في الطابق الثاني من البيت وتطل على الشارع، فقد كانت البيوت تُبنى بالطابوق، وفي الطابق العلوي تُبنى الشناشيل، وغالباً ما تكون قريبة من أخرى تُبنى في المنزل المجاور والتي تضفي الجمالية على الواجهة والخصوصية للعوائل، وتمد الأزقة بالظلال في أغلب أوقات النهار.
تـمـاثـل “الـشـنـاشـيـل” فـي الـعـراق “المشربية” فـي سـوريـة ومـصـر، ويـطـلـق عـلـى الـواجـهـة الـواحـدة شـنـاشـيـل، وجـمـعـهـا شـنـاشـيـات، وهـي قـريـنـة مــا يــعــرف الــيــوم بــ”الـبـالـكـونـة”، وكــانــت تـمـتـد عــلــى واجــهــة المنازل مـن الخشب المزين بكلمات أو نقوش مختلفة، وتــعــود إلـــى الــعــصــر الــعــبــاســي وحـتـى الـعـصـر الـعـثـمـانـي وماتلاه فــي الـفـتـرة الملكية التي حكمت الـعـراق، إلا أن تطور أسـالـيـب الـبـنـاء واعـتـمـاد الـطـابـع الغربي تسبب في توقف صناعة المزيد منها. والـشـنـاشـيـل واحــــدة مــن مـعـالـم بـغـداد الــقــديــمــة، لـكـنـهـا تـخـتـفـي شـيـئـا فـشـيـئـا بـمـرور الـزمـن، ولـذلـك أسـبـاب عـدة بينها إهمال المباني التراثية القديمة، أو امتداد يد الفساد إليها، عادة ما يكون مصيرها حــريــق مـفـتـعـل، أو تـفـجـيـر غــيــر مــبــرر، لتنتهي إلــى مـلـكـيـة أحــد رجــال الأعمال النافذين أو مسؤول حزبي، تحت أنظار المسؤولين. يقول محمد رسـول 25 سنة، من سكان منطقة الرصافة القديمة، إن »الشناشيل كانت تمثل (البغددة)، والتي تعني الرقي والـــــدالل، وهـــي جـــزء مــن هــويــة الــوطــن، ولإعادة تأهيل الشناشيل رمـزيـة كبيرة لمن يـعـي مـعـنـى عـروبـة بـغـداد ومـخـاطـر جرفها عن هذا الجذر«. ويـضـيـف لــ(مدونة العراق): “كــان في (قنبر عـلـي)، وهـو حـي متفرع مـن شـارع الـكـفـاح فـي جـانـب الـرصـافـة بالعاصمة بــغــداد، بــيــوت كـثـيـرة تـضـم الـشـنـاشـيـل الـبـغـداديـة الجميلة المبنية مـن الطابوق الآجر والخشب الصاج، وبعضها هدمت أو أزيلت، وما تبقى منها لايسر الناظرين بعدما كان الحي الذي يتميز بشناشيله من المناطق الراقية الجميلة في بغداد أيام العهد امللكي”. وينتقد حيدر رشيد(55 سنة)، الإهمال الحكومي لـلـتـراث: “مـاكـو (لايوجد) أي احـتـرام مـن الحكومة لتراثنا، ولـم يصل أي مسؤول من الحكومات المتعاقبة إلى هـذه الـدربـونـة (الـشـارع الضيق)، ولا أي شناشيل تم الإهتمام بها”. ويضيف رشيد: “يتكرر وجـود إعلاميين وســــيــــاح أجــــانــــب يــلــتــقــطــون صـــــورًا، ويـتـأسـفـون عـلـى هــذا الـتـاريـخ الـعـظـيـم، حين مزج الزجاج والخشب بهذا الجمال، لكن لم تتحرك الحكومات ولو مجاملة”، وقارن رشيد كيف يهتم العالم بالتاريخ، وكيف تتعمد الحكومات العراقية طمسه، وفق رأيه. وقــــال الــطـفـل ســرمــد ســـام (11 ســنــة)، إنـــه يــســكــن فـــي مــحــلــة الــــتــــوراة، والمتفرعة مــن شـــارع الــكــفــاح (شــــارع الملك غــازي حاليًا)، ويضيف: “كان بيت جدي سابقًا ً بشناشيله، اليوم أشاهد الصور التذكارية وأتمنى أن أكون معهم فيها”. ولـلـشـنـاشـيـل تـأثـيـر كـبـيـر عـلـى الـثـقـافـة الـشـعـبـيـة فــي الــعــراق، ونـسـجـت الـعـديـد مـــن الــقــصــص حــولــهــا، أشــهــرهــا قـصـة “حـب نـجـار الشناشيل لإبنة الـجـيـران”، وهــنــاك الـعـديـد مــن الـقـصـائـد والأغاني الـفـلـكـلـوريـة تــدل عـلـى ذلــك مـنـهـا أغـنـيـة (فدوة للشناشيلات)، التي تقول كلماتها “فدوة للشناشيلات تكعد بيهن الحلوات تكثر بيهن الضحكات فدوة للشناشيلات” كـمـا جــاء ذكــرهــا فــي كـتـب الــتــاريــخ مثل “النجوم الزاهرة” لابن تغري بردي، وكتب الشاعر الـعـراقـي بـدر شاكر السياب عنها قصيدته الشهيرة “شناشيل ابنة الجلبي”.
والشناشيل واحدة من أهم الشواخص المعمارية التي تحاكي الهوية الجمالية للمدن العراقية وأحيائها وأزقتها القديمة وبيوتها التي تعاني اليوم من الإهمال والتآكل والقِدم، بعد أن كانت رمزًا للجمال والإبداع الفني العراقي، الشناشيل هذا التراث الذي يقف اليوم أمام تصدعات الزمن وإهمال المعنيين، يحكي اليوم آخر قصصه من زمن الماضي الجميل علّها تكون سفينة النجاة. وبين الأزقة الضيقة (الدربونة) وقرب سوق حنون بحي «التوراة»، التابع لمنطقة «قنبر علي» في جانب الرصافة بالعاصمة بغداد، تقتادك رائحة خشب الصاج الرطبة المنبعثة من واجهات تلك المنازل المبنية من الخشب والزجاج، التي تعرف في اللهجة العراقية باسم “الشناشيل”. ترتبط الذاكرة العراقية الساكنة في تلك البيوت المبنية من الطابوق الآجر والخشب، بسحر أنغام موسيقى المربع البغدادي والمقام العراقي ورائحة الشاي أبو الهيل وعبق الماضي البغدادي الجميل. والشناشيل، ومفردها شنشول، هي شرفات خشبية مزخرفة هندسيًا بالرسم على الزجاج، تعمل على إبراز واجهة الطابق الثاني بأكمله أو غرفة من غرفه بشكل شرفة معلقة بارزة إلى الأمام، وتمتاز مناطق الشناشيل، وهي في أغلبها اليوم أحياء شعبية تهيمن عليها روح التقاليد المحافظة، بالبساطة التي تجدها متجسدة في النساء اللاتي يفترشن عتبات تلك البيوت، بينما تقوم الفتيات بالنظر إلى المارة في الشارع من خلف النوافذ الخشبية المرصعة بالزجاج الملون، التي صممت كالشرفة للتقارب مع البيوت الأخرى.الباحث والمتخصص في التراث العراقي عدنان الشبلي قال في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إن “بيوت الشناشيل التي كانت مناطقها توصف بالجميلة والغنيّة في أربعينات القرن الماضي، أصبحت اليوم تعاني من الإهمال” واليوم أصبحت أرى أن الأسلوب المعماري الذي امتازت به بيوت الشناشيل عن غيرها من بيوت المحلة، أضفى عليها نكهة خاصة في تاريخ التراث البغدادي المعماري، وأن هذه البيوت تعتبر قطعًا فنية نادرة لما لها من جمالية في طرازها وهندستها المعمارية، لذا صرت حريصًا جدًا على الإبقاء على بيتنا كما هو، كونه الآن يمثل تحفة فنية، ولأنه يحمل ذكرياتي كلها، وكان من قبل مسكن أبي وجدي، وأتألم كثيرًا وأنا أرى عمليات هدم الكثير من هذه البيوت واستبدالها بمنازل عصرية، أو تحويلها إلى مخازن أو ورش عمل». وأشار الشبلي إلى «ضرورة أن تولي الدولة اهتمامًا كبيرًا بهذه المناطق الأثرية، التي تعتبر جزءًا مهمًا من تاريخ العراق، وألهمت بسحرها الأدب العراقي والإبداع الفكري والمعرفي»
. يذكر أن الشناشيل وردت في الكثير من القصائد والقصص والروايات، وربما في مقدمتها قصيدة الشاعر العراقي الحداثي بدر شاكر السياب «شناشيل ابنة الجلبي». كما جُسّدت في اللوحات التشكيلية والأعمال النحتية أيضًا، ناهيك بالصور الفوتوغرافية، التي قدمها الكثير من الأدباء والفنانين العراقيين.
ويرى الفنان محمد صالح العبيدي أحد المختصين في فن العمارة البغدادية، أن الشناشيل ظهرت لأول مرة في العراق في مدينة البصرة في القرن السابع عشر الميلادي، متأثرة بمثيلاتها التركية والهندية. وانتقل هذا الطراز الجميل إلى بغداد وبقية مدن العراق.
وقال العبيدي في حديث لـ«مدونة العراق»، إن «الشناشيل تمثل مزيجًا بين الفن والعمارة والحضارة، التي خلدت إرثًا معماريًا جميلاً، وإن الشناشيل على اختلاف تصاميمها، تمنع دخول أشعة الشمس بصورة مباشرة إلى المنزل، ويتم ذلك بواسطة النوافذ ذات المشبكات الخشبية المثلثة، فضلاً عن توفيرها الظل للزقاق أو الشارع»، وبذلك كانت طريقة مناسبة للتخفيف من حرارة البيوت في المناخ العراقي الملتهب صيفًا».
وأضاف العبيدي أن «الخشب الذي يشيّد منه الشناشيل أسهم في التخفيف من وزن الأبنية، كما أن «سهولة التعامل مع الخشب في مجال العمارة والنقوش أدى إلى تنوع أشكال الشناشيل ومحتواها حسب ذائقة أهلها وما أبدعته أنامل وفكر الفنان البغدادي والعراقي في إرضاء ذائقة المجتمع العراقي المتنوع، وإن وضع الشناشيل في الطابق العلوي من المنزل أدى إلى تقارب سكان بيوت الشناشيل، بحيث يسمح للعائلات بتبادل التحيات والأخبار وشتى الأحاديث من خلالها، مما أثر على تقارب العلاقات الاجتماعية فيما بينهم».
وأوضح العبيدي أن «الشناشيل تمتاز أيضًا بنوع من الخصوصية، إذ تمكن أهل الدار من النظر إلى الخارج وليس العكس»، إلا أنه يحذر أيضًا من أن «زحف العمارة الحديثة مؤخرًا بدأ يشكل تهديدًا متناميًا للشناشيل، وقد يفضي في نهاية الأمر إلى اندثارها». من جهته، قال الخبير في التراث العراقي الباحث عادل العرداوي في حديث لـ«مدونة العراق»، إن «الشناشيل في البيوت البغدادية التراثية تمثل بالنسبة إلى العاصمة بغداد شخصيتها التاريخية والعمرانية، لأنها تجسد التقاليد المتوارثة من الماضي وتبقى إرثًا للأجيال القادمة.. وتعتبر الأساس للهوية الوطنية والمحلية، لذا من الواجب السعي إلى تهيئة الدراسات والمستلزمات الضرورية لوضع الخطط السريعة لتطوير مناطق بغداد عمرانيًا بما يتطلبه إبراز الجوانب الحضارية لهذه المدينة التاريخية العريقة، والحفاظ على ما تبقى من القيم الفنية والجمالية للعمارة البغدادية، لا سيما شناشيلها الرائعة، وإعادة صيانتها وترميمها ورصد واقع الارتقاء بها وإبراز الجوانب المشرقة منها، لتعود العاصمة بغداد إلى جمالها وألقها العمراني الذي تميزت به لقرون عدة، وبالخصوص الأحياء القديمة منها: كالكاظمية، والأعظمية، والشوّاكة، والكريمات، والبتاوين، والفضل، وباب الشيخ، والمهدية، وأبو سيفين، والجعيفر، والرحمانية، وحي التوراة، وغيرها، وشوارع الخلفاء، والكفاح، والشيخ عمر، وحيفا، وشارع الرشيد الذي يعتبر من أقدم وأشهر شوارع بغداد التاريخية وأحد أهم مراكزها التجارية، حيث ترك هذا الشارع بحالة يرثى لها منذ عام 2003 وإلى يومنا هذا، على الرغم من موقعه المتميز بالإضافة إلى أنه كان يُعد الشريان الرئيسي للعاصمة بغداد إضافة إلى غيره من المحلات (الحارات) والشوارع والأزقة التي أهملت خلال العقود الأخيرة».
وأضاف العرداوي أن «الشناشيل في البيوت البغدادية التراثية تماثل (المشربيات) في البيوت المملوكية في القاهرة.. وتماثل أيضًا (الرواشين) في بيوت مدينة جدة التراثية».
وتعتبر الشناشيل من الظواهر المألوفة في البيوت البغدادية التراثية ومن معالمها التراثية المميزة.. وهي الشرفات الخشبية المزخرفة المعلقة والمصطفة على الطريق العام، حيث توفر مظلّة يحتمي بها المشاة من شمس الصيف الحارة وأمطار الشتاء. ففي بيوت الميسورين تتحول الشناشيل إلى قطع فنية رائعة، وذلك لجمال نقوشها الخشبية التي تتخللها قطع زجاجية صغيرة ملونة.