يَكثرُ استعمالُ عبارَة "ثَقافَة الاعتراف"، وإذا تأمّلتَ وجدتَ أنّ الاعترافَ إقرارٌ بخطأ مُرتَكَب أو ذنب... والمُلاحَظُ أنّ "ثَقافة الاعترافِ"، تُطلَقُ اليومَ في سياقِ الاحتفاءِ بمَن يُرادُ إكرامهُم والإعرابُ عن فضلهم، ولعلّك تجدُ في التعبير بالاعترافِ ما يُفيدُ أنّ المُحْتَفِيَ كان قد قصَّر في حقِّ المُحْتَفَى به، فحانَ وقتُ الاعتراف بالتقصير
وطالَما نسمعُ دعوات إلى إقرار ثَقافَة الوفاء والتّذكير بفضَل أهل الفضْل
انتشرَت في الأوساط الثَّقافيّة العربية التي تتداوَلُ ألفاظاً ومُصطلحاتٍ يُعبَّرُ بها عن قيمٍ اجتماعيّةٍ، ألفاظٌ غَريبةٌ اتُّخِذَتْ تَعريباً لألفاظٍ أجنبيّةٍ مُستعملةٍ في السّياقِ نفسِه، من هذه الكلماتِ ما يُسمَّى اليومَ بثقافَة الاعتراف.
عندَما يسمَعُ المتكلّمُ بالعربيّة العارفُ بدلالاتها هذا اللّفظَ «الاعتراف» يتبادَرُ إلى ذهنِه معْنىً غريبٌ ليسَ هو المُرادَ، ذلكَ أنّ الاعترافَ يُستعمَلُ في نسقٍ دلاليّ خاصٍّ به لأّنّ لكلّ كلمةٍ حَمولة دلاليّةً وثقافيّةً كامنةً فيها بالقوّة قبلَ الانتقالِ بها إلى إنجازِ التّعبير: فالفعلُ اعترَفَ -مَثلاً- يُستعمَلُ في سياقِ الاعتراف بالذّنبِ:
باءَ بذَنْبِه وبإِثْمِه يَبُوءُ بَوْءاً وبَواءً احتمَله وصار المُذْنِبُ مأْوَى الذَّنب وقيل اعْتَرفَ به. وفي حديثِ ماعزِ بن مالكٍ أَن النبي صلى اللّه عليه وسلم أَمَر بِرَجْمِه حين اعْتَرَفَ بالزنى . وفي التّنزيل العَزيز: «قوله تعالى فاعترفوا بذنبهم، فَسُحقاً لأصحاب السّعير». واعْترف فلان إذا ذَلَّ وانْقادَ؛ قالَ الشاعرُ: # أَتَضْجَرينَ والمَطِيُّ مُعْتَرِفْ #. وعرَف بذَنْبه عُرْفاً واعْتَرَف أَقَرَّ . واعترَفَ الجاني بالجِنايَة مِن غَير بَيِّنة تقومُ عَليه .
فالاعترافُ يأتي في سياقِ الإقرار بالذّنبِ أو الجَريمَة أو تَصديقِ التُّهمةِ ، ولا يأتي في سياقِ الشَّهادَة المَعْلومَة غيرِ المُنْكَرَةِ ، وأنّ الذي يُشهَدُ له بفضْلٍِ وعَملٍ وتضحيةٍ ليسَ بمُتَّهمٍ عند القَومِ ولا مَظنونٍ، وليسَ الذينَ يَشهدونَ له بذلِك الفَضلِ في موضعِ تهمةٍ وإنكارٍ حتّى يَحْتاجوا إلى إقرارٍٍ واعترافٍ بعدَ إنكارٍ
هذا ما نَطَقَت به اللّغةُ العربيّةُ الكَريمَة، ولكنّ القومَ أخرجوا المَعْنى، لا مَجازاً ولا انزياحاً ، ولكن استهلاكاً للجَديد الوافدِ، من غيرِ نظرٍ في قَوالبِ التّنزيلِ.
نَعَم، يَجوزُ أن نَقولَ: ثَقافَة الاعتراف، ولكن لا بُدَّ من قيدٍ نُقيِّدُ به هذا الاعترافَ: ثقافة الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه، وثَقافَة الاعتراف لأهل الفضل والعلم بعدَ أن أهْمَلنا ذكْرَهُم وشُكرَهم وأنكرْنا فَضْلَهُم .
فإن لم نُقيِّد الاعترافَ، فينبغي لَنا أن نستبدلَ به غيرَه كأن نَقولَ: ثَقافَة الوَفاء، بَدَل الاعتراف..