لا شكّ أنّ المتتبع لعلوم اللسانيات في شقّها ألتنظيري ناهيك عن المختصّ يدرك تأثر الطلاب و الأساتذة و الدكاترة المختصين بما أنتجه الغرب من نظريات و تطبيقات و تسميات في اللسانيات الحديثة....و لكن هل كل النظريات و الاستنتاجات و التطبيقات و الإسقاطات صالحة للغة العربية.
نتناول في مدرجات الجامعات و الكتب المعتمدة مصطلحات حديثة موصوفة بالعلمية و المنهجية و ما إلى ذلك و لكن لا نتساءل عن مدى انطباقها و صحّتها و سريان كليّاتها و جزئياتها على اللغة العربية.
مثلا يقول واضعوا علم الأصوات اللغوي أو الفنولوجيا :" علمُ الأصوات Phonetics يدرس الأصوات اللغوية، من حيث مخارجها وصفاتها وكيفيَّة صدورها. ويطلق على هذا العلم أيضًا: الصّوتيات، أو علم الصّوتيات، وهو فرع من فروع علم اللغة.
بقليل من الملاحظة نجد أنّ هذا العلم ظهر مع علم التجويد أو أحكام الترتيل في باب الصفات و المخارج, فصفات الحروف و مخارجها هو علم الصوتيات, و السؤال هنا لماذا نعدل إلى التسمية الغربية الحديثة و نترك التسمية القديمة المجمع عليها بنماذجها و تطبيقاتها القرءانية ؟
في نفس السياق يقسّم العلماء العرب المخارج إلى سبعة عشر مخرجا , موزّعة على خمسة أقسام رئيسية و هي الحروف الجوفية و الحلقية و اللسان و الشفهية و الخيشوم , و الصفات إلى : الجهر و الهمس و الرخاوة و الشدّة و التوسط و الاستفالة و الاستعلاء و الترقيق و...و فصّلوا صفة كل حرف حيث لا ينزل حرف واحد عن اجتماع خمس صفات و فصّلوا في بعض صفات الحروف, فخصّوا صفات ملازمة لحروف بعينها كالتّفشي في الشين و الاستطالة في الضاد و التكرار في الرّاء و ...الحاصل أنّنا تركنا الإرث العلمي في مخارج الحروف و صفاتها و سعينا وراء تسميات و نظريات تُهمل جوهر الصوتيات العربية, و أخذنا بالتقسيمات التي وضعها الغربيون.
في الفرنسية مثلا لحرف A صفته الإستعلاء و هي صفة قويّة و في العربية الألف المديّة من صفتها الضعف و الاستفالة و إن كانت همزة صارت قويّة و حافظت على استفالتها...و في الإنجليزية حرف A فيه انحراف و مدّ و إمالة بل في لغتهم ليس له صوت واحد...
بالنسبة لصورة الكلمة : من المفروض أن نعبّر عنها بالموازين الصرفية , و من المعلوم أنّ اللغة الفرنسية و الإنجليزية مثلا لا تملك الموازين الصرفية بل تعتمد على الجذور و السوابق و اللواحق.فإذن هذه التسمية غير مُستساغة في العربية.
بالنسبة لعلم الوظيفة ,يقابله الإعراب لأنّ الوظيفة عندهم هي دور الكلمة في الجملة أي أن تكون فعل أو فاعل أو مفعول به... و عليه لماذا نترك مصطلح علم الإعراب و نأخذ بمصطلح علم الوظيفة , و كأنّنا ندرس العربية بمنطق العقول و الخصائص الغربية حتى غرّبنا لغتنا لأنّنا تعاملنا معها بالمنطق الغربي الذي لا يمكن أن تُخضع له العربية لاختلاف الخصائص.
أمّا عن علم بنية الجملة فعندنا الجمل في العربية و بُناها و لا يخفى علينا أنّ العربية اختصّت بالجملة الفعلية عن الفرنسية و الإنجليزية , فهل ستحيط تقسيمات الغربية في مصطلحاتها بتفاصيل و كليات لغة تملك من القوّة و المميزات و الأوجه ما يغيب عن تلك اللغات.
كانت هذه بعض الإشارات موجزة أدعو من خلالها إلى مقابلة النظريات الغربية بالنظريات العربية في اللسانيات, و اعتماد المصطلحات النظرية الخاصّة بالعربية عبر تاريخها في إطار إرثها المنسوب إليها.