شاع في استعمال المحدثين قولهم (ناهيك عن) في معرض الثناء أو التأكيد، وهو استعمال خالف ما جاء عند القدماء مبنى ومعنى، إذ ورد (ناهيك به) و(ناهيك من)، مثال ذلك في لغة القدماء قول الزمخشري عن العلَم المركب تركيبًا إسناديًّا: "كما سموا: بتأبَّطَ شرًّا، وبرِقَ نحْرُهُ، وشابَ قرناها. وكما لو سمى: بزيدٌ منطلقٌ، أو بيت شعر. وناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر، وبين التسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم، دلالة قاطعة على صحة ذلك"(1). وقول ابن السراج "وتقول: هذا رجلٌ، ناهيكَ من رجلٍ، وهذه امرأة، ناهيتك من امرأةٍ، فتذَكر (ناهيًا) وتؤنثه لأنه اسم فاعل"(2). وقول ابن السرّاج أتوقف فيه؛ لأنه مجرد قياس نحوي غير معزز بشاهد، ولم يتابعه في استعمال هذا أحد ولم يردّد قوله نحوي بعده، حسب اطلاعي، ولم يردّد قوله سوى صاحب الصحاح ومن نقل عنه، ولم نر المطابقة في قول الزمخشري الذي أوردته قبله، ونجد استعمال الناس بعده بالتذكير والإفراد، كما أفرد وذكّر اسم التفضيل، ومن هذه النصوص التي أسوقها للتمثيل من غير ترتيب تاريخي:
قال الزمخشري: "وإذا كان الأمر مباحا من جميع جهاته ولم يكن فيه وجه من وجوه القبح ولا مفسدة ولا مضرّة بزيد ولا بأحد، بل كان مستجرا مصالح، ناهيك بواحدة منها أن بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنت الأيمة والضيعة ونالت الشرف وعادت أما من أمّهات المسلمين"(3).
قال ابن الرومي:
إذا الأرض أدّت ريع ما أنت زارعٌ ... من البذر فيها فهي ناهيك من أرض(4)
قال الصنوبري:
ناهيك من فضّة تجري على ذهب ... ماء من النّور في ماء من اللهب(5)
قال بشار:
تكلّف القول والأقوام قد حفلوا … وحبّروا خطبا ناهيك من خطب!(6)
ونجد هذا الاستعمال في كتب عدد من المؤلفين(7).
وقد خطّأ استعمالَ المعاصرين أسعد خليل داغر وغيره(8)، قال "وتراهم يُخْطِئون في استعمال (ناهيكَ)، فيأتون به بمعنى (علاوة على) أو (فَضْلًا عن)، فيقولون: "ناهيك عن تَحَوُّل قُوَّتَيِ البُخارِ والكهرباءِ إلى نُورٍ وحرارة"، و"هو بارِعٌ في صناعته ناهيك عن مَعْرفَتِه لبعض اللغات الأجنبية"، وفي كتب اللغة أن (ناهيك) كلمة تَعجُّب واسْتِعْظام؛ تقول "ناهيك بزَيْدٍ كاتِبًا" كما تقول: حَسْبُك. وتأويلها أنه يَنهاكَ عن طَلَب غيره. وتقول: "زيدٌ رجلٌ ناهيك مِن رجل"، أي: كافِيكَ"(9).
والحق أنّ المحدثين أهل لغة يحق لهم أن يطوروا استعمالات لغتهم ما لم يفسد هذا بناءًا صرفيًّا أو تركيبًا نحويًّا، وهم في قولهم (ناهيك عن) قيدوا العامل بحرف جديد يلبي ما أرادوا التعبير عنه، ولذلك وفّق أستاذنا أحمد مختار عمر إلى تصحيح الاستعمال، قال "أوردت المعاجم التعبير «ناهيك من» في مثل: هو رجل ناهيك من رجل، بمعنى حسبك وكافيك، وفي المصباح: ناهيك بزيدٍ فارسًا كلمة تعجُّب واستعظام، ويمكن تصحيح الاستعمال المعاصر حملًا على المعنى الأصلي للتعبير، وهو: «ناهيك عن تواضعه»، وهو ما يفيده التعبير: «بلهِ تواضعه» الذي يعني «اترك تواضعه»؛ فهو أمر معروف مُسلّم به"(10).
والفرق بين الاستعمالين أن ما بعد حرف الجر في استعمال القدماء مطابق لما قبله، وأما في استعمال المحدثين فما بعد الحرف مغاير لما قبله، يقول القدماء: هذا رجل ناهيك به وناهيك من رجل، أي حسبك به وحسبك من رجل، ويقول المحدثون هذا رجل كريم ناهيك عن والده، أي بلهِ والدَه.