توهمت زمنًا أن قول (ركب دماغه) أو (ركب راسه) من موضوعات عامة مصر أو الشام(1) حتى صادفتها في التراث، ورأيت أستاذنا صادق عبد الله أبو سليمان تنبه إلى ذلك وأشار إلى وروده في التراث(2).
ونجد أصل هذه الكناية، في ما جاء في حاشية (مقامات الزمخشري)، قال "وركب رأسه أصله في الوعل إذا أراد الانحدار من الشاهق ركب قرنيه، فتزلّق عليهما حتى يبلغ الحضيض، وترك الثنايا التي يصعَد فيها وينحدر، فضُرب مثلًا لكل متعسف لا يأخذ في طريق مسلوك"(3).
ولعل هذا ما يفهم من معنى التكدّس، قال الأزهري "ويقالُ: التّكَدُّس: أَنْ يُحَرِّكَ مَنكِبَيه ويَنصَبَّ إِلَى مَا بَين يَدَيْهِ إِذا مَشَى. وَقَالَ أَبُو عبيد: التَّكدُّس: أَنْ يُحَرِّكَ مَنكِبَيه وكأنّه يَركب رأسَه، وَكَذَلِكَ الوُعولُ إِذا مَشت"(4).
ويبدو أن هذه المِشية من مقتضيات الإسراع، قال ابن دريد "الدقدقة: الْعَدو الشَّديد دقدق الرجل إِذا ركب رَأسه فِي عدوه كَأَنَّهُ يهوي"(5). وقال ابن سيده "والتجْليحُ، السّير الشَّديد. وجَلَّحَ فِي الْأَمر، ركب رَأسه"(6).
وربما كان مقترنًا بالضلال والمضي على غير هدى، وهذا شأن (القامِه)، قال الشيباني "القامِه: الذي يَرْكَبُ رأسه لا يدري أين يوجّه"(7). وهو (الكامِه)، قال الجوهري "الكامِهُ: الذي يركب رأسه فلا يدري أين يتوجَّه"(8). وَيُقال عنه حينئذ "صَمِع إِذا ركب رَأسه فَمضى غير مكترث لَهُ"(9).
وهو "رجلٌ قَطامِيٌّ: يَرْكبُ رَأسَه فِي الأمُورِ"(10). وهذا شأن الفرس الساطي فيقال "سَطَا الفَرَسُ سَطْوًا رَكِبَ رَأْسَه في السَّيْرِ"(11).
ولأنه مُضيّ لا وجه له قيل عنه (أفق) جاء في العين "أفق: أَفَقَ الرجل يَأْفِقُ، أي: ركب رأسه فمضى في الآفاق"(12). وقريب منه معنى ومبنى (عفق)، قال "عَفَقَ يَعْفِقُ عَفْقًا: إذا مَضَى راكِبًا رأسَه، ومن الإبل. تقولُ: ما يزالُ يَعْفِقُ عَفْقًا ثم يَرجعُ: أي يغيب غَيْبةً. والإبِل تَعْفِقُ عَفْقًا وعُفوقًا: إذا أُرسِلَتْ في مَراعيها فَمَرّتْ على وجهها. وربما عَفَقَتْ عن المَرْعَى إلى الماء تَرْجِعُ إليه بين كُلِّ يَومَين"(13). وقد يكون من مقلوبه "وَعَقَفَ الرَّجُلُ: رَكِبَ رَأْسَه"(14).
وانتقل من هذا المعنى الحسيّ، وهو الذهاب، إلى معان مجازية كالمضيّ في الرأي، ومباشرة أمر يحتاج إلى مشورة وتروّ، فهو بذلك راكب لرأسه، ولذلك وصف بـالصهميم و"الصِّهْميمُ من الرِّجالِ: الّذي يركَبُ رأسَه، لا يثْنيِه شيءٌ عمّا يريد ويهوى"(15). وهو أمر مذموم حتى قيل (غشمشم)(16) و"الغَشَمْشَم: الذي يركبُ رأسَه لا يثنيه شيءٌ عمَّا يُريدُ ويهوى"(17). وربما يوصف بما هو علّة لركوب الرأس، "قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء إِذا رَأَيْت نُعَرَة النَّاس وَلم تستطع أَن تغيرها فدعها قَالَ الْأَصْمَعِي النُّعَرَة ذُبَاب كَبِير أَزْرَق لَهُ إبرة يلسع بهَا، وَرُبمَا دخل أنف الْبَعِير فيركب رَأسه فَلَا يردهُ شَيْء، وَالْعرب تشبه ذَا الْكبر بذلك الْبَعِير إِذا ركب رَأسه، وتُشبّه الرجل يركب رَأسه ويمضي عَلَى الْجَهْل فَلَا يردهُ شَيْء بذلك"(18).
وهذا الراكب رأسه فيه جسارة، فقيل عنه "تَيْهان وتَيَّهانٌ، إِذا كَانَ جَسُورًا يَرْكب رأسَه فِي الْأُمُور"(19). وفيه تهوّر فهو "رَجُلٌ خَرُوطٌ: مُتَهَوِّرٌ يَرْكَبُ رَأْسَهُ"(20). ولذلك "هُوَ عَمُولٌ عَمُوسٌ: يَرْكَبُ رَأْسَهُ وَيَمْضِي فِيمَا يَعْمَلُهُ"(21).
وتظهر هذه الجسارة وربما التهور في الحرب، قال الأزهري "وَالرجل يَعْسِمُ فِي جمَاعَة النَّاس فِي الْحَرْب، أَي يركب رَأسه وَيَرْمِي بِنَفسِهِ وَسطهمْ غير مكترِث، يُقَال عَسَمَ بِنَفسِهِ إِذا اقتحم"(22). وَكذا قَالَ الأصمعيّ "انْدَلَثَ فلَان انْدلاثًا إِذا رَكِب رَأسه فَلم يُنَهْنِهْه شيءٌ فِي قتال"(23). ويقال فيه عُرضيَّة "والعُرْضِيَّة: الصعوبة. وَقيل: هُوَ أَن يركب رَأسه من النخوة"(24).
والنخوة هنا بخلاف ما عليه عامتنا من الاستعمال للحمية، ذلك أن "النَخْوَةُ: الكِبْرُ والعظمة. يقال: انْتَخى فلانٌ علينا، أي افتخر وتعظم"(25).
ويكاد استعمال العامة لقولهم (ركب رأسه) ينحصر في بيان الإصرار على الأمر والعناد؛ ولكنا نجد ما حفل به التراث من تعدد في دلالات هذا الاستعمال.