التفكر في الباطن، والغوص في الذات، والمعية الإلهية، والبحث عن المحبة الكامنة في روحنا ومحبة الله، كلها معانٍ نادى بها جلال الدين الرومي في ديوانه “مثنوي” لذلك قال فيه: “ما دام قلبك قد تعلَّم إشعال الشموع، فإن الشمس لا تجرؤ على إحراقه”.
كتاب “مثنوي” لمولانا جلال الدين الرومي :
“مثنوي” ديوان شعري لمولانا جلال الدين الرومي عظيم القيمة والحجم، يقع في ستة أجزاء كبيرة، يعتبره الرومي كشفًا للأسرار، فيقول في مقدمته: “هذا كتاب مثنوي، وهو أصل من أصول الدين في كشف أسرار الوصول واليقين”، كما أنه نور يشرق وجنة من الجنان، كنيل مصر شراب للصابرين وحسرة على آل فرعون والكافرين، هو حديقة العباد وطريقة الزهاد وغرر المقالات، يشتمل على الغرائب والنوادر والقصص الديني والتراثي.
والأجزاء ليست كلها أشعارًا بل تتضمن شروحًا وتوضيحات وهوامش، وهو في معظمه قصص دينية وردت في الأثر ليقدم من خلالها جلال الدين الرومي العظة والعبرة وليبين المحبة التي كان ينادي بها في حياته كلها.
نَظمَ جلال الدين الرومي 4932 بيت شعري، وزعها على 6 أجزاء، عبارة عن خلاصة علم ومعرفته، وهبها للقارئ، فهي متاحة اذهب واقرأ واعرف وذق حلاوة المحبة، فمن ذاق عرف ومن عرف اغترف.
ومن سمات جلال الدين الرومي الاستطراد فهو يبدأ بالقصة ثم يستطرد على إثرها بكثير من الحكم ثم يكمل قصته فنجده يقول في إحدى قصصه :
- والطائر محلق في الأعالي .. وظله منعكس على الأرض .. يسرع طائرًا وكأنه الطائر الحقيقي.
- ويصبح أحد البلهاء صيادًا لذلك الظل، ويسعى كثيرًا من أجل ألا يظفر بنتيجة.
- وهو غافل عن أن هذا الظل هو انعكاس للطائر المحلق في الفضاء، وغافل عن موضع أصل ذلك الظل.
- فلا يفتأ يرمي ذلك الظل بالسهام، وتخلو كنانته .. لكن في البحث والتقصي.
- فقد أضحت كنانة عمره خالية خاوية، وضاع عمره هباء من سعيه في صيد الظل بجد وجهد.
- وعندما يشمله الخالق بظل رعايته، ينجو من الخيال من ظله.
- والعبد “الصادق” لله يصبح ظلًا له، إنه ميت عن هذا العالم حي به.
- فاستمسك بأطراف ثيابه بأسرع ما يمكنك، حتى تنجو بلا شك من فتن آخر الزمان.
قصة أخرى :
وهناك قصة مشهورة تحكي عن الرجل الذي ذهب إلى النبي سليمان يطلب منه الذهاب إلى الهند حالًا، فتعجب سليمان من طلبه وعندما سأله أجابه بأن مَلَك الموت ظهر له وأنه يخاف الموت ويريد الذهاب بعيدًا حالًا حتى ينجو، وبالفعل أمر سليمان الريح بأن تذهب به إلى الهند وقابل سليمان في اليوم التالي عزرائيل وسأله :
- لماذا نظرت بغضب إلى ذلك المسلم بحيث فارق أهله؟
- قال : متى نظرت إليه بغضب؟ لقد وجدته في طريقي فنظرت إليه بعجب لأن الله تعالى كان قد أمرني بأن أقبض روحه في الهند.
- فقلت مندهشًا: لو كان له مائة جناح، فبعيد عليه أن ينتقل إلى الهند.ويعلِّق مولانا على هذه القصة قائلًا :
فممن نهرب؟ أمن أنفسنا؟ يا للمحال، وممن نختطف؟ من الحق؟! يا للوبال!!!
فهو يسرد العظة من القصة حتى يتدبر القارئ فيها، ويطرح التساؤلات، حتى يجيب عنها المتلقي بينه وبين نفسه.
أورد قصصًا أبطالها الحيوانات، فيقول في ختام قصة كان بطلاها أسدًا وأرنبًا :
-
عندما أخذه الأسد إلى جواره، أخذ في حمى الأسد يسرع نحو البئر.
- وعندما نظرا إلى الماء في البئر، انعكست صورة الأسد وصورته في البئر واضحة جلية.
- ورأى الأسد صورته في الماء الرائق، رأى صورة أسد وإلى جواره أرنب سمين.
- وعندما رأى خصمه في الماء، ترك الأرنب وألقى نفسه في البئر.
- وسقط في البئر الذي كان قد حفره، لقد كان ظلمه وارتد إليه.
- ولقد صار ظلم الظالمين عليهم بئرًا مظلمًا، وهكذا قال كل العلماء.
- وكل من هو أكثر ظلمًا يكون بئرة أكثر هولًا، وقد قال العدل أن للأسوأ مصيرًا أسوأ
- فيا من تقوم بظلم الخلق من جاهك، اعلم أنك تحفر بئرًا لنفسك.
فيعقب مرة أخرى على قصة التي تحكي عن الظلم :
- لقد رأى الأسد نفسه في البئر ومن الغلو، لم يستطع التمييز بين نفسه آنذاك وبين العدو.
- لقد رأى صورته عدوًا لنفسه، فلا جرم أنه سل السيف على نفسه.
- وما أكثر الظلم الذي تراه “صادرًا” من الآخرين، وهو نيتك أن تكون فيهم.
- إنه أنت، وإنك توجه هذه الطعنة إلى نفسك.
الهوامش والشروحات :
بعد انتهاء الأبيات، يبدأ القسم الثاني وهو الهوامش والشروحات، وهو من تعليق المترجم إبراهيم الدسوقي شتا، هذه الشروحات بذل فيها شتا مجهودًا عبقريًا، إذ يربط فيها بين الأجزاء جميعها، ولم يكتف بشرح المعاني النورانية والباطنية ومقصد الكاتب، بل نقد بعض القصص التي ذكرها مولانا.
مثال على ذلك أول قصة وردت في الجزء الأول، وهي قصة تتحدث عن جارية عشقها ملك، وهي كانت تحب صائغًا فأتى به الملك وجمع جاريته به، ثم قتله، وعندما مات أمامها ذهب حبه من قلبها.
وهنا علَّق شتا قائلًا: “من هنا تبدأ لا منطقية الأحداث في هذه الحكاية وعدم إقناعه، والواقع أن الحكاية التي اعتمد عليها مولانا تقف عند عملية اكتشاف المرض ولا تخبرنا بالعلاج”.
ويقول: “جزء آخر من لا منطقية الحدث في القصة، فكيف يسلم الملك معشوقته التي يعاني من حرمانه منها لمرضها كل هذه المعاناة إلى عاشقها السابق لتشفى بوصاله”.
ويقول: “ما إن مات الصائغ حتى شفيت الجارية من حبه، وإذا كانت حقيقة قد عانت كل هذا المرض الشديد لفراقه، فكيف لا يضنيها مرضه وذوبانه أمامها، وكيف لا يحطمها موته تحطيما”.
فهناك بعض الاضطراب في بعض القصص، لكن العبرة والمقصد من القصة واضحًا ويبقى موجودًا رغم هذا التناقض، يشرحه مولانا مرة في الأبيات، ويشرحه إبراهيم الدسوقي شتا مرة أخرى في الشروحات.
المركز القومي للترجمة عندما قرر إخراج أجزاء مثنوي للنور، فهو قدم خدمة جليلة لكل القارئين باللغة العربية، كتابًا عرفانيًا لعالم نوراني جليل هو جلال الدين الرومي..
من هو جلال الدين الرومي :
ولد جلال الدين الرومي سنة 604، توفي سنة 672 من الهجرة، لقب والده بسلطان العلماء، وهناك رواية تقول إن الرسول – صلى الله عليه وسلم – هو الذي لقبه بهذا اللقب في منام رآه كل علماء بلخ في ليلة واحدة.
في تلك الفترة كانت بلخ مركزًا مهمًا من مراكز التصوف الإسلام، لكن الصوفيين كانوا يتعرضون لبعض المتاعب من قبل خوارزمشاه بتحريض من فخر الدين الرازي حيث كان يمثل علماء الظاهر والفلسفة والصوفيون يمثلون رجال الباطن.
هاجر جلال الدين الرومي مع أسرته إلى نيسابور، كما أنهم تنقلوا بين مكة وسوريا والأناضول، وقد التقى جلال الدين الرومي بالعديد من المتصوفة والشخصيات الهامة مثل فريد الدين العطار وابن العديم، وتزوج بفتاة سمرقندية تسمى جوهر خاتون، وكان مغرمًا بالمتنبي، والتقى بمحيي الدين بن عربي.
شمس تبريزي وجلال الدين الرومي :
ثم كان اللقاء الأعظم بشمس الدين تبريزي الذي علمه وألهمه ودله على الطرق، وحين قابله كان وقتئذٍ الرومي عالمًا دينيًا مشهورًا، فتبدَّل حالُه وسلك طريقًا آخر، طريق العلم المعنويّ مهتديًا ومسترشدًا بأستاذه وشيخه شمس تبريزي وانتهت الألفة بينهما بمقتل شمس الدين سنة 644 هجرية.
فشمس التبريزي هو الذي فتح أبوبًا من العلم والمعرفة للرومي، وعرّفه الطريق اللدني، ومن آثار تأثير تبريزي على جلال الدين أنه عندما كتب الرومي ديوانًا سماه باسمه “شمس تبريزي” احتوى على 42000 بيت، وتُرجم إلى العربية نحو الثلث منه، وصدرت به طبعة نشرها المركز القومي للترجمة في جزئين ترجمة إبراهيم الدسوقي شتا.
محمد أبو عوف - اراجيك